زيد بن علي الفضيل يكتب: مؤتمر العرب المسيحيين انكشاف على الآخر القريب
سررت بحضوري افتتاح "مؤتمر العرب المسيحيين الأول: الجذور والأدوار والمسار النهضوي"، والذي تم تنظيمه من قبل جمعية الثقافة والتعليم الأرثوذكسية بالعاصمة الأردنية عمان في الفترة الماضية، وكان أكثر ما لفت نظري جمال التنظيم وروعة الافتتاح والذي قَدمت فيه الجوقة الموسيقية بعض مقطوعات غنائية كانت غاية في الجمال والإحساس العربي الأصيل، على أن أكثر ما لامسني هو وقوف الحاضرين ـــ دون أي دعوة من أحد ـــ حال غناء الجوقة لقصيدة موطني للشاعر إبراهيم طوقان، والتي باتت رمزا عربيا وإن اتخذه العراق سلاما جمهوريا له.
على أن أكثر ما شدني في افتتاح المؤتمر هو اختيار القائمين عليه شخصية علمية وهو الأستاذ الدكتور همام غصيب ليكون راعيا للمؤتمر، وأحسب أن ذلك تفردا لم يسبقهم أحد فيه، حيث حرصت المؤتمرات على استقطاب أحد الشخصيات المجتمعية البارزة ممن يحضون بالألقاب الوجاهية (سمو، دولة، معالي) ليكون راعيا للحفل والمؤتمر، لكن هذا المؤتمر تسامى عن السياق المعهود، واستقطب عالم معرفي ليكون راعيا للمؤتمر، ولعمري فتلك قيمة في حد ذاتها تحسب للمنظمين فلهم الشكر ابتداء وانتهاء.
في هذا السياق أشير إلى أنه وبالرغم من وضوح العلاقة الودية بين المسلمين والمسيحيين متنا وهامشا، قولا وفعلا، وذلك منذ البدايات الأولى لتباشير البعثة المتمثل في موقف بُحيرى الراهب، مرورا بدعم القس ورقة بن نوفل القرشي صهر النبي وابن عم زوجه الطاهرة خديجة بنت خويلد، وليس انتهاء بموقف الملك النجاشي في الحبشة الذي حمى أتباع النبي الذي هاجروا إليه هربا بأنفسهم ودينهم من ظلم قريش المشركة.
بالرغم من كل ذلك وغيره إلا أن العلاقة قد تشوهت بفعل السياسة، وتأثير الصراع المسلح بين الدول المسلمة والغرب المسيحي، والذي نتج عنه ما عرف لاحقا بالحروب الصليبية، ناهيك عن تغول الإسلام المذهبي الذي حل بديلا عن الإسلام النبوي، بل وأصبح حاكما لكثير من سلوكنا الإنساني، فكان أن تشددت الأنفس، وتغيرت الأحكام لتخرج في عديد من الحالات عن قيمتها العدلية وصيغتها القائمة على المساواة، إلى قيمتها الجبرية وصيغتها المنطلقة من فوقية قميئة لا أساس لها، ولا تُعبر عن سمت وسلوك رسول الله وصحابته المنتجبين.
والشواهد على ذلك عديدة، ومنها الإيمان بما رواه مسلم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: (لا تبدؤوا اليهود ولا النصارى بالسلام فإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه)، حيث أخذ بعض الفقهاء في تفصيل كيفية التعامل مع أهل الكتاب وفق معطيات الحديث الوارد بشكل مغاير لما كان عليه النبي وأصحابه، وبالصورة الفجَّة التي تخالف طبيعة رسول الله ومنهجه الرحيم المتواضع، ناهيك أنه يعارض آيات بينات قطعية الثبوت والدلالة في كتاب الله المعظم والتي تنص على مودة النصارى بخاصة كقوله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ۖ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} (المائدة 82)، كما أمر الله ببر مَن لم يقاتل المسلمين ولم يخرجهم من ديارهم في قوله تعالى: {لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (الممتحنة 8) وحتما فحسن المعاملة من البر والإقساط جملة وتفصيلا.
أشير في هذا السياق إلى كثير من شواهد المودة بين المسيحيين والنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأتباعه من المسلمين، إذ كان الابتداء بموقف بُحيرى الراهب الذي أمر أبوطالب بأن يعود بابن أخيه حين عرف أنه النبي الموعود وهو في سن الثانية عشر، وذلك حتى لا يقتله يهود بُصرى، وتلك أول إشارة للعلاقة الودية، إذ كان بإمكانه أن يتركه يذهب ثم يُوشي به، لكنه وانطلاقا من موقف ديني إيجابي أبى ذلك، بل وحرص على تحذير أبي طالب، وشدد على حماية ابن أخيه، وقد كان.
ثم تجلت تلك المودة في موقف القس القرشي ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب الداعم للنبي حال بزوغ نور النبوة وتجليها في كيانه الشريف، في وقت كان بأمس الحاجة فيه إلى من يسنده بقول سليم وروح طيبة، وهو ما وضح في قول زوجه الطاهرة خديجة بنت خويلد رضوان الله عليها حين نزل مذعورا من غار حراء جراء تبليغه بالرسالة، وبالتالي سيخرج من هدوئه وكمونه الذاتي إلى مواجهة قومه ودعوتهم إلى الحق، وهو أمر يُدرك النبي مشقته واستعصاء قومه، فما كان من خديجة إلا أن ذهبت بعد أن هدأت من روع زوجها إلى ابن عمها ورقة بن نوفل لتخبره بما جرى، فقال لها: قدوس قدوس، والذي نفس ورقة بيده، لئن كنت صدقتيني يا خديجة لقد جاءه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى، وإنه لنبي هذه الأمة، فقولي له: فليثبت. ثم ذهبت بحبيبها له، فقال ورقة بن نوفل: يا ابن أخي! ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله خبر ما رآه. فقال له ورقة: هذا الناموس الذي أنزل على موسى يا ليتني فيها جذعا. يا ليتني أكون حيا حين يُخرجك قومك. قال رسول الله أَوَ مُخْرِجِيَّ هم؟ قال ورقة: نعم. لم يأت رجل قط بما جئت به إلا عُوْدِيَ. وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا.
ثم في موقف ملك الحبشة النجاشي أصحمة بن أبجر المسيحي والذي حفظ له نبينا المودة وصلى عليه صلاة الغائب حين وفاته عرفانا وامتنانا لحفظه المسلمين الذين لجؤوا إليه؛ وكان بإمكانه تسليم من هاجر إلى الحبشة هربا بنفسه ودينه اتباعا لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه المستضعفين: لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإن بها ملكا لا يُظلم عنده أحد، لكنه أبى ورفض أن يستجيب لموفد قريش عمرو بن العاص، وبخاصة بعد أن أدرك بمنطق جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه عمق العلاقة الروحية بين دعوة النبيين الكريمين عليهما السلام.
ثم في موقف هرقل غير النافر من رسالة النبي إليه، حيث استقبلها بتأدب وإكرام، وقرأ رسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتمعن، وأظهر احتراماً لها، وحرص على أن يعرف أكثر عن حياة النبي القرشي، فكان لقاءه بأبي سفيان الذي لم يكن قد أسلم بعد، لكنه كان صادقا في إجاباته لأسئلة هرقل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
كذلك كان حال المقوقس عظيم مصر والذي اتسم موقفه بالإيجابية والتقدير، حيث استقبل رسول النبي حاطب بن أبي بلتعة وأكرمه، وأرسل معه هدايا قيمة تشمل جاريتين، وكسوة، وبغلة، وأظهر احترامه لدعوة النبي. وكان أن تزوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إحدى الجاريتين وهي السيدة مارية، التي بقيت على دينها المسيحي القبطي، فاحترم رسول الله دينها ولم يفرض عليها الدخول في دين الإسلام، بل وبنى لها مشربة خاصة أطلق عليها اسم مشربة أم إبراهيم، حتى إذا أسلمت بعد سنة من زواجها لم ينتزع شخصيتها ويقوم بتغيير اسمها إلى مريم، وكان له ذلك، بل ظلت محتفظة باسمها المسيحي في حياته وبعد مماته وحتى اليوم حيث نناديها بالسيدة مارية القبطية؛
ومن القدر أن يخصها الله دون زوجاته في المرحلة الثانية من حياته بعد هجرته للمدينة المنورة بأن تنجب له ابنا وهو سيدنا إبراهيم، حيث خصها الله بذلك ولم يقدره لأحد من نساء النبي، باستثناء زوجه الأولى وحُبه الأزلي السيدة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها.
وليس ذلك وحسب، بل كان موقفه جميلا مع وفد نصارى نجران الذين قدموا إليه برهبانهم وقساوستهم في عام الوفود وطلبوا مباهلته، حتى إذا فطنوا لخطورة ما طلبوه تراجعوا، ولم يكن النبي ليتشدد معهم بعد ذلك، ثم سمح لهم بأن يقيموا قداسهم في مسجده، وأعطاهم أمانه حال مغادرتهم بكتاب نص فيه على: أن لهم عهد الله وذمة رسوله ألا يغير أسقف عن أسقفيته ولا كاهن عن كهنوتيته،،،
ثم كانت وصيته لأسامة بن زيد بن حارثة حال توليته جيش محاربة المرتدين بأن يقوم برعاية أولئك الرهبان الذين نذروا أنفسهم في صوامعهم،،،
شواهد كثيرة تدل على حالة المودة العامرة بين المسلمين والمسيحيين والتي أغفلها التاريخ ودفنتها المصالح السياسية منذ العهد الأموي وحتى اليوم، وأن الأوان لتعريتها؛ ومن ذلك موضوع الجزية الذي اختلف الفقهاء فيها ابتداء من حيث طبيعتها وقيمتها وكيفية استحقاقها، مع الإشارة إلى أنه لم يثبتْ عن النبيّ عليه الصلاة والسّلام أنّه أخذ الجزية من أحد وبخاصة بعد ذكرها في سورة التّوبة والتي جاء فيها: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (التوبة:29)، والشاهد في هذه الآية تدل على أن حكمها مخصوص بقوم في مكة يدعون أنهم من أهل الكتاب غير أنهم قد تماهوا فكرا ومنهجا مع المشركين ممن لا يؤمنون بالله ولا يؤمنون باليوم الآخر ويستبيحون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون بدين الحق الذي يجب أن يكونوا عليه أساسا، فيكون أولئك من الخارجين الذين يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون.
أخيرا، ما أصدق قول الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه لمالك بن الأشتر حين ولاه مصر حيث ورد في العهد الشهير بعهد الأشتر في مقطع منه قوله: "ولا تكونن سَبُعا ضاريا فتغتنم أكلهم (أي أهل مصر وكانوا من المسيحيين الأقباط)، فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق.
وفي ذات السياق، ما أجمل ما ذكره عضو مَجْمَع اللّغة العربيّة الأُردنيّ وأُستاذ شرف (الفيزياء النّظريّة) بالجامعة الأُردنيّة، الدكتور همام غصيب في مقدمة افتتاحه للمؤتمر المشار إليه حين قال: "يُولد العربيّ المسيحيّ في بيْتٍ مسيحيّ، وأثرُ الطفولةِ دائمًا طاغٍ؛ إلّا أنّه، فوْرَ ولادتِه، يستظلُّ بخيمةِ الثقافةِ العربيّةِ الإسلاميّة (هكذا، دونَ شرْطةٍ أو مائلةٍ أو واوِ عَطف). وإذا سألتَهُ: إلى أيّ حضارةٍ تنتمي، مِنْ بيْن حضارات صموئيل هنتنغتونSamuel Huntington (1927-2008) الثماني: الغربيّة [الكاثوليكيّة البروتستانتيّة]، والأمريكيّة اللاتينيّة، و[المسيحيّة] الأرثوذكسيّة، واليابانيّة، والهنديّة، والصينيّة، والأفريقيّة، و[العربيّة] الإسلاميّة؟ سيُجيبُ: العربيّة الإسلاميّة".
بهكذا روح ومعنى تتقلص الفوارق بين مسيحيي الشرق جملة وباقي قرناءهم من العرب المسلمين، وهو ما وضح في ثنايا الحروب الصليبية والتي شنها الغرب المسيحي على بلاد الشام، حيث لم تفرق في قتلها واستهدافها بين عربي مسلم وآخر مسيحي، الأمر الذي يتكرر اليوم في غزة المنكوبة، والتي لم تفرق الإبادة اليهودية بين فلسطيني مسلم وآخر مسيحي، لتمتزج دماء الهويتان ماضيا وحاضرا في بوتقة واحدة، فطوبى لهم جميعا، وسلام على المرسلين.