خيرالله يكتب: من أجل تفادي لبنان مصير غزّة

خيرالله خيرالله

لا تفسير للمنطق اللبنانيّ الذي يبدو مصرّاً على أن يكون مصير لبنان شبيهاً  لمصير غزّة، من ناحية الدمار، في وقت لم يعُد سرّاً أنّ لدى إسرائيل 1,200 هدف مستعدّة لضربها في كلّ أنحاء البلد. يعتمد المنطق اللبنانيّ، الأقرب إلى اللامنطق، على لعبة شراء الوقت.

ينطلق منطق اللامنطق اللبنانيّ من أنّ التسويف أقلّ كلفة من أيّ خيارات أخرى يهدّد بها “الحزب”. يشمل ذلك في طبيعة الحال تفادي القول لـ”الحزب” والمسؤولين عنه، في إيران تحديداً، إنّه لا خيار آخر أمام لبنان وإنّ تمسّك “الحزب” بالسلاح يعني بكلّ بساطة تمسّكه باستمرار الاحتلال الإسرائيليّ للمواقع الخمسة التي يسيطر عليها في جنوب لبنان. هذا التحذير حمله المبعوثون العرب، بينهم المبعوث المصريّ إلى بيروت (مدير الاستخبارات اللواء حسن رشاد)، كذلك المبعوثة الأميركيّة مورغان أورتاغوس التي حرصت على زيارة منطقة الحدود، من الجانب الإسرائيلي، قبيل انتقالها من الدولة العبريّة إلى لبنان.

لا خيار غير خيار نزع السلاح الذي لا يزال “الحزب” يحتفظ به في حال كان مطلوباً تفادي حرب جديدة تشنّها إسرائيل. لا خيار آخر لسبب في غاية البساطة يعود إلى أنّ شراء الوقت ليس في مصلحة لبنان وأنّ الحرب الداخليّة التي يخشى منها العهد، عهد الرئيس جوزف عون، آتية لا محالة بوجود السلاح.

جرّب لبنان في الماضي لعبة شراء الوقت. انفجرت هذه اللعبة في وجهه. استخدم، أولئك الذين برّروا توقيع اتّفاق القاهرة في تشرين الثاني 1969، قول إنّ الاتّفاق بات الوسيلة الوحيدة للحؤول دون انفجار داخليّ. ما لبثت الحرب الأهليّة، التي لم يحُل اتّفاق القاهرة دونها، أن وقعت في 13 نيسان 1975. أنهى الحربَ اتّفاقُ الطائف الذي كان تسوية كان في الإمكان التوصّل إليها، قبل عام 1989، لو قبِل اللبنانيّون الجلوس إلى طاولة مستديرة للبحث فيما بينهم في مستقبل النظام السياسي من جهة، وكيفيّة التعاطي مع المستجدّات الإقليميّة من جهة أخرى.

الغطاء الإسرائيليّ لسوريا الأسد

كانت بين تلك المستجدّات وفاة جمال عبد الناصر، بكلّ ما كان يمثّله من ثقل عربيّ، في 28 أيلول 1970 وخروج المقاومة الفلسطينية من الأردن، وما استتبعه من نقل النظام السوريّ المسلّحين الفلسطينيّين مباشرة من الأردن إلى لبنان، من دون السماح لهؤلاء بالنوم ليلة واحدة في الأراضي السوريّة. يضاف إلى ذلك التغيير العميق الذي شهدته سوريا بتمكّن حافظ الأسد من احتكار السلطة ابتداء من 16 تشرين الثاني 1970. لم يكن من هدف للأسد الأب غير التأسيس لنظام علويّ في سوريا من جهة، ووضع اليد على لبنان وعلى القرار الفلسطينيّ من جهة أخرى. نجح في ذلك بفضل الغطاء الإسرائيليّ الدائم لنظامه.

يوجد حاليّاً سببان على الدولة اللبنانيّة أخذ العلم بهما من أجل استعجال الانتهاء من سلاح “الحزب”، أو أقلّه اتّخاذ موقف صريح منه على أعلى المستويات، بدل ترديد كلام لا معنى له سياسيّاً. إنّه كلام من نوع اشتراط الانسحاب الإسرائيليّ من الأراضي المحتلّة في جنوب لبنان ووقف الاعتداءات قبل العمل على حصر السلاح في يد الدولة اللبنانيّة… في كلّ الأراضي اللبنانيّة.

ربّما السبب الأوّل الذي يُفترض في لبنان أخذ العلم به أنّ تنفيذ القرار الرقم 1701 الصادر عن مجلس الأمن في آب 2006، يعني أن لا سلاح في لبنان غير سلاح الجيش اللبناني. كلّ ما على أيّ مسؤول لبنانيّ عمله، بمن في ذلك الرئيس نبيه برّي، قراءة نصّ القرار 1701 الذي يقول الآتي: “يؤكّد (القرار) أهمّيّة سيطرة حكومة لبنان على جميع الأراضي اللبنانيّة وفق أحكام القرار 1559 (2004) والقرار 1680 (2006) والأحكام ذات الصلة من اتّفاق الطائف، وأن تمارس كامل سيادتها حتّى لا تكون هناك أيّ أسلحة دون موافقة حكومة لبنان ولا سلطة غير سلطة حكومة لبنان”.

لم يلتزم لبنان يوماً القرار 1701. هذه هي الحقيقة. في النهاية، شنّ “الحزب” حرباً على إسرائيل في اليوم التالي لـ”طوفان الأقصى”. لا يمكن للبنان التعاطي مع الدولة العبريّة بصفة كونه الطرف المنتصر في “حرب إسناد غزّة”. على العكس من ذلك، لا مفرّ من دفع ثمن الهزيمة التي تسبّب بها حزب لم تكن لديه في يوم من الأيّام أجندة لبنانيّة.

تراجع الدّور الإيرانيّ

أمّا السبب الثاني الذي يفترض في الدولة اللبنانيّة أخذ العلم به فهو التغيير الجذريّ الذي حصل في سوريا من جهة، وتراجع الدور الإيرانيّ في المنطقة من جهة أخرى. لا يدلّ على مدى عمق التغيير السوري، الذي قطع طريق دمشق على “الحزب” وعلى إيران، أكثر من الزيارة التي قام بها حديثاً للرياض الرئيس أحمد الشرع.

عادت سوريا إلى الحضن العربيّ للمرّة الأولى منذ عام 1970. لم يعد لدى “الحزب” مِن همّ غير تفادي النتائج المترتّبة على خسارته لسوريا حيث كان الراحل حسن نصرالله بمنزلة المرشد السياسيّ والروحيّ لبشّار الأسد. هل في لبنان من يستوعب معنى خروج “الحزب” من سوريا ومعنى التراجع الإيرانيّ على كلّ صعيد؟

على من يريد التأكّد من أنّ “الجمهوريّة الإسلاميّة” ستكون منشغلة بأزمتها الداخليّة العميقة، أخذ العلم بأنّ صحيفة “جوان”، التابعة للحرس الثوريّ الإيرانيّ، وجّهت حديثاً انتقاداً لاذعاً إلى الرئيس الإيرانيّ، مسعود بزشكيان، على خلفيّة تصريحاته الأخيرة، التي قال فيها: “نحن ننام على الذهب لكنّنا جياع، ونجلس على النفط والغاز لكنّنا جياع”. رأت الصحيفة أنّ  المتوقّع أن يكون الرئيس، باعتباره صوت الحكومة ورمزاً للإرادة الوطنيّة، “منصّة لنشر روح القوّة والثقة بالنفس والنظرة المستقبليّة، لا لتغذية مشاعر الإحباط”.

هل يتحمّل لبنان مسؤوليّاته ويبتعد عن منطق اللامنطق بدءاً بالاعتراف بأن لا بديل من القرار الجريء في ما يخصّ سلاح “الحزب”، أي سلاح إيران، والتفاوض مع إسرائيل بطريقة أو بأخرى… في حال كان مطلوباً تفادي مصير شبيه بمصير غزّة؟