حلا أبو صافي تكتب: غزة، حين يصنع العالم "هولوكوست" جديد

 

حلا أبو صافي

لم يعد ما يجري في غزة مجرد أزمة إنسانية عابرة، بل تحوّل إلى مأساة أخلاقية كبرى تُعرض على مسرح العالم بلا أقنعة. الأمم المتحدة أعلنتها بوضوح: القطاع دخل مرحلة المجاعة. لم يعد الحديث عن تحذيرات، بل عن واقع يومي يعيشه الناس، حيث يحاصرهم الجوع كما تحاصرهم القذائف.

الأرقام التي قدمتها منظمات أممية كبرى ترسم صورة تفوق الوصف. أكثر من ستمئة وأربعين ألف إنسان يعيشون في المرحلة الخامسة من انعدام الأمن الغذائي، أي المجاعة الكاملة. وفي الوقت نفسه، يواجه مليون ومئة وأربعون ألفًا مرحلة الطوارئ، بينما يقف قرابة أربعمئة ألف عند حافة الأزمة. الأطفال يدفعون الثمن الأفدح: اثنا عشر ألفًا منهم يعانون من سوء تغذية حاد، وهو رقم صادم ارتفع ستة أضعاف منذ بداية هذا العام. أما النساء، فالمأساة مزدوجة، إذ تواجه خمسة وخمسون ألف امرأة حامل أو مرضعة خطر سوء تغذية قد يهدد حياتهن وحياة مواليدهن (1).

هذه الأرقام ليست معادلات باردة، بل وجوه هزيلة وأجساد أنهكها العجز. إنها أمهات يطاردن علبة حليب في مدينة محاصرة، وآباء ينهارون قهرًا أمام عجزهم عن توفير لقمة لأطفالهم. ومع الحصار المستمر، وغياب الوقود، وانهيار المستشفيات وشبكات المياه، تحولت الحياة في غزة إلى معركة بقاء يومية، عنوانها الوحيد: “من يعيش حتى الغد؟” (2).

لكن المأساة لم تتوقف عند حدود غزة، بل تجاوزتها لتفرض نفسها على السياسة الدولية. فقد دفعت هذه الكارثة دولًا عدة إلى اتخاذ خطوات غير مسبوقة بالاعتراف رسميًا بدولة فلسطين. من النرويج وإسبانيا وسلوفينيا في عام 2024، وصولًا إلى كندا وأستراليا والمملكة المتحدة والبرتغال في العامين الأخيرين. لم تكن هذه الاعترافات وليدة حسابات سياسية فحسب، بل استجابة أيضًا لضغط الرأي العام العالمي الذي لم يعد قادرًا على تجاهل صور الأطفال الهزالى والنساء المرهقات بالجوع.

حتى أصوات المسؤولين الأمميين، الذين اعتادوا لغة باردة ومحسوبة، خرجت هذه المرة أكثر صراحة: مدير منظمة الأغذية والزراعة أكد أن الغذاء حق أساسي لا امتياز، فيما شددت المديرة التنفيذية لبرنامج الأغذية العالمي على أن وقف إطلاق النار بات ضرورة لإنقاذ الأرواح. أما مديرة اليونيسف، فوصفت الوضع بالخطير للغاية مؤكدة أن الأطفال بحاجة إلى علاج غذائي عاجل، في حين حذّر مدير منظمة الصحة العالمية من الاستمرار في حرمان المدنيين من الرعاية الصحية والغذاء (1).

وفي ختام هذا المشهد القاتم، أقول كطالبة إعلام: ما يحدث في غزة ليس مجرد أزمة غذائية، بل أزمة أخلاقية عالمية تكشف عجز البشرية عن حماية أبسط القيم التي قامت عليها. فالعالم الذي اعترف بقيام إسرائيل تأسيسًا على مأساة "الهولوكوست" (3) يصمت اليوم على "هولوكوست" جديد ترتكبه إسرائيل بحق الفلسطينيين أمام أنظاره. إما أن يتحرك الضمير الإنساني لإنقاذ ما تبقى من كرامة الإنسان، أو يُسجَّل هذا الصمت كوصمة عار في تاريخنا الحديث.