الكساسبة يكتب: الفيدرالي الأميركي في مفترق الطرق: إلى أين تتجه السياسة النقدية؟

 

حمد الكساسبة

تدخل السياسة النقدية الأميركية مرحلة دقيقة مع اقتراب نهاية ولاية رئيس مجلس الاحتياطي الفدرالي في مايو 2026، وبدء الاستعداد لاختيار خليفة له. ويأتي ذلك في ظل تباطؤ النمو وارتفاع التضخم وتفاقم الدين العام الذي تجاوز 34 تريليون دولار، إلى جانب الإغلاق الحكومي المتكرر والانقسام السياسي حول إدارة الدين، ما يجعل المشهد المالي الأميركي أكثر غموضًا وتعقيدًا.

منذ اتفاق عام 1951 بين وزارة الخزانة والاحتياطي الفدرالي، مثّل الفصل بين السياستين المالية والنقدية أحد ركائز استقرار الدولار وثقة الأسواق. إلا أن تفاقم العجز في السنوات الأخيرة جعل القرارات النقدية تتقاطع مع ضغوط مالية متزايدة، إذ تميل الحكومة إلى تيسير الاقتراض لتخفيف أعباء الدين، فيما يسعى الفدرالي إلى كبح التضخم برفع أسعار الفائدة. هذا التضارب بين الهدفين خلق حالة من التردد في المسار النقدي وأضعف وضوح التوقعات المستقبلية.

وقد عبّر رئيس مجلس الاحتياطي الفدرالي مؤخرًا عن هذا الواقع حين أقرّ بأن الاقتصاد الأميركي «يسلك طريقًا غير خالٍ من المخاطر»، في ظل تضارب المؤشرات وتراجع دقة البيانات بسبب الإغلاق الحكومي، وهو ما جعل من الصعب رسم مسار نقدي مستقر وواضح للمرحلة المقبلة.

ويجد الفدرالي نفسه اليوم أمام تحدي الحفاظ على استقلاله وسط بيئة سياسية واقتصادية شديدة التقلب. فغياب الانسجام بين السياسة المالية والنقدية لا يهدد فقط استقرار الأسعار في الداخل، بل ينعكس أيضًا على ثقة الأسواق العالمية بالدولار، الذي يبقى محور النظام المالي الدولي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

وفي المقابل، تستغل القوى الاقتصادية الصاعدة هذه اللحظة لإعادة النظر في هيكل النظام النقدي العالمي. فدول مجموعة «البريكس» تعمل على توسيع استخدام عملاتها المحلية في التبادلات التجارية، في حين تبحث الاقتصادات الأخرى عن بدائل لتقليل اعتمادها على الدولار، وهي تحركات وإن كانت تدريجية، إلا أن استمرار الغموض في السياسة النقدية الأميركية يمنحها زخمًا إضافيًا.

كما أن الأدوات التقليدية للسياسة النقدية لم تعد بنفس الفاعلية في مواجهة تضخم تغذّيه عوامل جيوسياسية واضطرابات في سلاسل الإمداد. وهو ما يفرض على البنوك المركزية — وفي مقدمتها الفدرالي — تطوير أدوات جديدة أكثر مرونة تستفيد من التكنولوجيا المالية وتقلل من فجوة الزمن بين القرار والأثر.

أما على الصعيد الدولي، فإن أي تحرك في أسعار الفائدة الأميركية — صعودًا أو هبوطًا — ينعكس مباشرة على الأسواق الناشئة، من خلال تغيرات في حركة رؤوس الأموال وكلفة الديون المقومة بالدولار. لذا بات من الضروري لتلك الاقتصادات بناء احتياطيات أكثر تنوعًا وتعزيز مرونتها النقدية لتقليل تبعيتها لدورات الفائدة في الولايات المتحدة.

ومع اقتراب نهاية الولاية الحالية، بدأت الإدارة الأميركية إعداد قائمة مختصرة لخلافة رئيس الفدرالي، في خطوة تعكس إدراكًا مبكرًا لحساسية المرحلة المقبلة. فإذا نجحت واشنطن في تحقيق التوازن بين الانضباط المالي واستقلال القرار النقدي، فسيبقى الدولار مركز الثقة العالمية. أما إذا فشلت، فالعالم ماضٍ نحو نظام نقدي أكثر تعددية وأقل اعتمادًا على عملة واحدة.