إيران تحرر نفسها من القيود النووية.. عودة إلى المربع الأول أم انطلاقة نحو مرحلة جديدة؟
د. نبيل العتوم
في خطوة يمكن وصفها بأنها نقطة تحوّل في مسار الملف النووي الإيراني، أعلنت طهران اليوم أنها لم تعد ملزمة بالقيود المفروضة على برنامجها النووي، بعد انتهاء العمل باتفاق عام 2015 والقرار الأممي 2231. هذا الإعلان لم يكن مجرد تصريح تقني، بل رسالة سياسية محسوبة بدقة، حملت في طياتها تحديًا للغرب وتأكيدًا على تمسك إيران بما تصفه بـ"الحق السيادي في تطوير التكنولوجيا النووية"، مع الحفاظ في الوقت ذاته على لغة دبلوماسية تتيح لها المناورة دون الانزلاق إلى مواجهة مباشرة.
اختارت طهران هذا التوقيت بدقة، لتربط تحررها من القيود بانتهاء المدة القانونية للقرار الأممي، ما يمنحها غطاءً شكليًا لتقول إنها لم تنسحب، بل "أنهت مرحلة انتهت صلاحيتها". في الواقع، أرادت إيران أن تُظهر للعالم أنها تملك زمام المبادرة، وأنها ليست من يخرق الاتفاقات بل من يلتزم بها حتى آخر يوم، في مقابل ما تعتبره "خيانة غربية" لتعهّدات رفع العقوبات.
في رسالتها إلى مجلس الأمن، حمّلت إيران الولايات المتحدة المسؤولية الكبرى عن فشل الاتفاق، متهمةً واشنطن بأنها لم تكتفِ بالانسحاب بل وسّعت عقوباتها لتشلّ الاقتصاد الإيراني. أما الدول الأوروبية، فقد نالت نصيبها من الانتقاد بوصفها "شريكًا سلبيًا" لم يفِ بالتزاماته، بل أضاف عقوبات جديدة بدلًا من تخفيفها. بهذا الخطاب، أرادت طهران أن تنقل المعركة من الميدان النووي إلى ميدان الشرعية القانونية والسياسية، لتقول للعالم إن الطرف المخلّ بالاتفاق ليس هي، بل الغرب بأسره.
غير أن ما بين السطور أهم مما في النص. فبينما ترفع إيران شعار الدبلوماسية، فإنها عمليًا فتحت الباب أمام مرحلة جديدة من الحرية النووية، يمكن أن تشمل رفع مستوى التخصيب، وتوسيع منشآتها، وتطوير أجهزة طرد مركزي متقدمة دون رقابة دولية فعالة. هذه الخطوة تضع المنطقة والعالم أمام معادلة أكثر خطورة، إذ قد تدفع إسرائيل إلى إعادة النظر في حساباتها الأمنية، وربما إلى تنسيق أوضح مع واشنطن لمواجهة أي تطور نووي مفاجئ، كما قد تثير قلقًا متزايدًا لدى دول الخليج التي تخشى من سباق تسلح غير معلن في المنطقة.
في الداخل الإيراني، سيُسوّق النظام هذه الخطوة بوصفها انتصارًا للسيادة الوطنية وردًا قويًا على "الابتزاز الغربي"، في محاولة لتعزيز الجبهة الداخلية ورفع المعنويات بعد سنوات من الضغوط الاقتصادية والتوترات الاجتماعية. لكن خلف هذا الخطاب المنتصر، تدرك طهران أن المواجهة المفتوحة ليست في مصلحتها، لذلك من المرجح أن تنتهج سياسة "التصعيد المحسوب" أو ما يمكن تسميته بـ"التدرج النووي"، أي رفع سقف الأنشطة خطوة بخطوة، بحيث تمتلك أوراق ضغط جديدة دون أن تُتهم بخرق صريح يمكن أن يبرر تدخلاً عسكريًا أو عقوبات أممية جديدة.
وهكذا، تبدو إيران وكأنها تعود إلى المربع الأول، ولكنها ليست إيران عام 2015. إنها اليوم الأقل نفوذًا في الإقليم، وأكثر خبرة في التعامل مع العقوبات، وأقرب إلى عتبة نووية لتعويض تدمير مصداتها ما يجعل أي مفاوضات قادمة أكثر تعقيدًا وأقل مرونة. إنها لحظة مفصلية تعيد رسم توازنات القوة في الشرق الأوسط، وتفتح الباب أمام مرحلة قد تكون الأكثر حساسية منذ توقيع الاتفاق النووي قبل عشر سنوات.