ما قبل الانفجار: حرب الاستخبارات بين إيران وإسرائيل تستعر

 

 

د. نبيل العتوم

في سابقة نادرة، أقرت طهران بأن شبكات الاتصال داخل الدولة تعرضت لاختراقات واسعة النطاق ، في اعتراف يشير إلى أزمة أمنية عميقة تهزّ بنية النظام الاستخباري الإيراني. هذا الإعلان المفاجئ لا يمكن فصله عن تصاعد الصراع الخفي بين إيران وإسرائيل، والذي تحوّل من حرب سيبرانية محدودة إلى سباق استخباراتي مفتوح، تتقاطع فيه الأقمار الصناعية مع الأقنعة البشرية، والاختراقات الرقمية مع الخلايا النائمة. فالمشهد لم يعد صراعاً في الظل فقط، بل أصبح تمهيداً لساعة الصفر التي يعتقد الإيرانيون أنها تقترب بسرعة.

الاعتراف الإيراني يعكس وعياً داخلياً بأن منظومة الحماية التي طالما تباهت بها طهران بدأت تتآكل. فشيفرات القيادة والسيطرة لم تعد آمنة، والأجهزة الأمنية تواجه خصماً يعرف أماكنها قبل أن تتحرك. إسرائيل، من جهتها، كثّفت عملياتها الاستخباراتية مستهدفة الأعصاب  الحساسة للنظام الإيراني، بدءاً من المنشآت النووية والصاروخية والفضائية والبنى الحيوية الحساسة وحتى البنية الرقمية للحرس الثوري. وتشير تقديرات غربية إلى أن الاختراقات الإسرائيلية لم تعد مجرد جمع معلومات، بل باتت تشمل القدرة على تعطيل أنظمة الاتصالات والقيادة عند الضرورة، وهو ما يفسر حالة الذعر التي تسود أوساط القيادة الإيرانية حاليا .

في مواجهة هذا الواقع، وضعت إيران خطة طوارئ غير مسبوقة تقوم على مبدأ "القيادة الموزعة والبديلة ". جرى وفق هذا الترتيب  تفويض القيادات الميدانية باتخاذ قرارات مستقلة في حال انقطاع الاتصال مع طهران، كما فُعّلت قنوات تواصل بديلة تعتمد على الوسائل التقليدية والمشفّرة يدويًا بعيداً عن الإنترنت. هذه الإجراءات ترافقها حالة تخفٍ واسعة بين كبار القادة، حيث تشير تسريبات إلى أنهم غيروا مواقعهم، وأوقفوا استخدام هواتفهم وأجهزتهم الإلكترونية خشية التتبع. يبدو أن القيادة الإيرانية باتت مقتنعة أن استهداف “رأس النظام” لم يعد احتمالاً بعيداً، وأن أي ضربة إسرائيلية قادمة ستبدأ من الرأس قبل أي هدف آخر.

في المقابل، تعتمد إسرائيل استراتيجية “الاختراق قبل القصف”. فهي تدير حرب مخابرات دقيقة تتضمن مراقبة الاتصالات، واختراق المراسلات الداخلية، والتجسس عبر الأقمار الصناعية والطائرات المسيرة.. والاستخبارات البشرية الموزعة داخل الجغرافيا الإيرانية. الهدف هو شلّ منظومة القرار الإيراني لحظة الضربة، بحيث تتحول طهران إلى كتلة من الفوضى لا تستطيع الرد السريع. هذه الحرب غير المرئية هي النسخة المعاصرة من الصراع التقليدي بين “الموساد” و”فيلق القدس” و ستة عشر جهازا أمنيا في إيران، حيث تسعى تل أبيب إلى تحييد الخصم استخبارياً قبل أن تشتبك معه عسكرياً.

القناعة السائدة في طهران أن ساعة الصفر باتت أقرب من أي وقت مضى. تسريبات استخباراتية تحدثت عن “تحركات غير مسبوقة” للطيران الإسرائيلي وتكثيف الرصد عبر الأقمار الصناعية لمنشآت إيران الحيوية . كما تشير بعض التقديرات إلى أن إسرائيل حصلت بالفعل على خرائط تفصيلية شاملة  لمنشآت  عسكرية ونووية ...داخل إيران، بفضل الاختراقات الأخيرة. هذا الواقع يضع النظام الإيراني أمام معضلة وجودية: كيف يحافظ على صورته كقوة إقليمية صاعدة بينما تتهاوى سرّيته أمام خصومه؟.

الملف الأخطر أن حرب المخابرات لم تعد مقصورة على طهران وتل أبيب، بل امتدت إلى حلفائهما ووكلائهما في الإقليم. فإسرائيل تسعى لتجفيف منابع التمويل والتخطيط والتصفيات وتعزيز الاختراقات التي تصل إلى حزب الله والحوثيين والميليشيات العراقية، بينما تحاول إيران عبر وكلائها خلق توازن ردعي يُربك تل أبيب ويؤخر قرارها العسكري. وفي الوقت ذاته، تُظهر طهران أن تسريبها لمعلومات الاختراق قد يكون رسالة مزدوجة: اعتراف بالثغرات، لكنه أيضاً إعلان بأنها مستعدة للقتال رغم الانكشاف الأمني ونفي عنصر المفاجأة .

في النهاية، حرب الاستخبارات بين إسرائيل وإيران تجاوزت حدود السرية، لتتحول إلى صراع وجودي يُدار على حافة الهاوية. كل إشارة اتصال، كل تحرك ميداني، وكل معلومة مسرّبة قد تُشعل الشرارة الأولى في “ما قبل الانفجار”. إنها حرب العقول والاستخبارات والمعلومات والاختراقات والمفاجآت غير المتوقعة... قبل الصواريخ، حيث من ينتصر في الخفاء قد يحدد شكل الشرق الأوسط في العلن.