خيرالله يكتب : حرب 1973… بين وطنية السادات وطائفية الأسد
المنطقة لا تزال تدفع إلى اليوم ثمن أفكار البعث بسذاجتها وسخفها وعدم واقعيتها وهي أفكار استخدمها حافظ الأسد وصدّام حسين كلّ منهما على طريقته من أجل حماية نظامه.
مع وقف النار في غزّة، نتذكّر أنّه مرّت قبل أيام الذكرى الـ52 لحرب أكتوبر. مرّت الذكرى فيما العالم العربي لا يزال يعاني، وإن بنسبة أقلّ، من انقسام عمودي بين مدرسة المنطق من جهة ومدرسة اللامنطق من جهة أخرى. ما زالت المواجهة قائمة بين منطق تحرير الأرض، لقاء ثمن لا مفرّ من دفعه، ولامنطق يتمثّل في استخدام الاحتلال الإسرائيلي للحصول على شرعيّة ما تحتاجها أنظمة أو منظمات، ما زالت ترفع شعارات فارغة من نوع “المقاومة” و”الممانعة” أو أن “فلسطين هي البوصلة.”
توفّر الذكرى الـ52 لـ”حرب تشرين”، في ضوء المآسي التي تمرّ بها المنطقة منذ ما يزيد على نصف قرن، وآخرها مأساة غزّة، مناسبة لمراجعة أحداث لم تكن بينها سوى إيجابية… أو إيجابيتين وربّما أكثر بقليل. تتمثل الإيجابية الأبرز في استعادة مصر لأراضيها المحتلة في العام 1967.
لا يزال الجولان، الذي سيطرت عليه إسرائيل منذ يونيو 1967، تحت الاحتلال. كذلك الأمر بالنسبة إلى الضفّة الغربيّة والقدس الشرقيّة. أمّا غزة التي احتلتها إسرائيل في حرب الأيام الستة وكانت تحت الإدارة المصريّة، فإنّ مصيرها صار في مهب الريح. انسحبت إسرائيل من القطاع في العام 2005 معتقدة أنّها وجدت حلا للصداع الذي كانت تعاني منه. تبيّن أن ليس في غزة، التي سيطرت عليها “حماس”، من يعرف كيف يستغلّ الانسحاب الإسرائيلي من أجل البناء عليه. بدل البناء على الانسحاب الإسرائيلي، قادت مدرسة اللامنطق “حماس” إلى “طوفان الأقصى”، الذي كان طوفانا للدمار ولوحشية إسرائيلية ليس بعدها وحشية.
بعيدا عن تفاصيل الحروب التي تلت “حرب تشرين” أو “حرب أكتوبر”، وكل حرب من هذه الحروب مأساة بحد ذاتها، يتعلّق الأمر بعقليتين ومدرستين ونهجين سياسيين لا يمكن أن يلتقيا، نهج يبحث عن تكريس الاحتلال الإسرائيلي قاده حافظ الأسد ثم نجله بشّار ونهج آخر يسعى إلى التخلّص من الاحتلال. قاد أنور السادات نهج التخلّص من الاحتلال عندما اتخذ قرارا تاريخيا بدخول مفاوضات مباشرة مع إسرائيل ابتداء من نوفمبر 1977. وقتذاك، ذهب إلى القدس وألقى خطابا في الكنيست. مهد ذلك لاتفاقية كامب ديفيد في سبتمبر 1978 ثمّ لتوقيع معاهدة السلام المصريّة – الإسرائيلية في مارس 1979.
كلّما مرّ الوقت يتبيّن كم كان أنور السادات وطنيّا مصريّا حقيقيا، وكم كان حافظ الأسد أنانيا ومتعصّبا وطائفيّا. كان يبحث عن تكريس الاحتلال الإسرائيلي للجولان كي يضمن بقاء النظام العلوي الذي ما لبث أن ورّثه لنجله بشّار. الذي لم يمتلك أي صفة تؤهّله ليكون في موقع رئيس دولة محوريّة. كانت مصر همّ السادات فيما كانت حماية النظام الهمّ الوحيد لدى الأسد الأب والأسد الابن. لم يتردّد بشّار من أجل المحافظة على النظام في السقوط في الفخّ الإيراني.
لا تزال المنطقة تدفع إلى اليوم ثمن أفكار البعث، بسذاجتها وسخفها وعدم واقعيتها، وهي أفكار استخدمها حافظ الأسد وصدّام حسين، كلّ منهما على طريقته من أجل حماية نظامه.
عندما ذهب السادات إلى القدس تصالح حافظ الأسد وصدّام فجأة. تلاعب حاكم سوريا بحاكم العراق، المعروف بغبائه السياسي، ووظّفه في عملية ابتزاز دول الخليج، عبر تهديدها. ناور حافظ الأسد ببراعة كي لا يكون هناك تأييد عربي لخطوة الرئيس المصري الذي سعى إلى وضع إسرائيل أمام أمر واقع. نجح حافظ الأسد، في ضوء وجوده العسكري في لبنان، بمنع ياسر عرفات من مرافقة أنور السادات إلى القدس. أجابني ياسر عرفات، عندما سألته مرّة لماذا صفّق لأنور السادات عندما قال في خطاب أمام مجلس الشعب أنّه ذاهب إلى القدس “إلى بيتهم”، بالآتي: “لم أصدّق أنه (السادات) كان جديا في ما قاله. لكن لدى وقوفي مع كبار المسؤولين المصريين للسلام عليه في أثناء مغادرته مجلس الشعب قال لي بالحرف الواحد: اسمع يا ياسر. أنا ذاهب إلى القدس. تعال معي، ما تخفش من صحف بيروت.”
لم تكن صحف بيروت وراء مخاوف ياسر عرفات. لم يرافق الزعيم التاريخي للشعب الفلسطيني الرئيس المصري بسبب الرعب من حافظ الأسد، وبما يمكن أن يفعله بالفلسطينيين في سوريا ولبنان، لا أكثر.
حصلت مقاطعة عربيّة لمصر التي استطاعت استعادة كلّ أراضيها المحتلة في العام 1967 نتيجة حرب يتحمّل ضابط ريفي اسمه جمال عبد الناصر كلّ المسؤولية عنها. يعود ذلك إلى جهل ناصر بما يدور في العالم، إضافة إلى جهله بإسرائيل.
بعد 52 عاما على “حرب تشرين”، يقف العالم العربي أمام حرب غزّة وما أسفرت عنه من نتائج غيّرت الخريطة السياسيّة في المنطقة بمجرّد خروج سوريا من دائرة النفوذ الإيراني. حل نفوذ “الجمهوريّة الإسلاميّة” مكان نفوذ البعثين السوري والعراقي في ثمانينيات القرن الماضي وتسعينياته وفي مرحلة ما بعد اغتيال رفيق الحريري في 14 فبراير 2005.
كان اغتيال رفيق الحريري نقطة تحول على الصعيدين اللبناني والإقليمي. جاء الحدث نتيجة مباشرة لسقوط العراق في يد إيران نتيجة الاجتياح الأميركي في 2003.
حاول أنور السادات نقل المنطقة إلى مكان آخر. استثمر سياسيا في حرب 1973. حاول قدر الإمكان جرّ العرب الآخرين إلى التصالح مع المنطق. فشل في ذلك… إلى أن جاءت الكارثة الناجمة عن “طوفان الأقصى” التي ستأخذ الشرق الأوسط إلى المجهول بعيدا عن أي نوع من المنطق.
لا يقل اللامنطق الذي يعتمده اليمين الإسرائيلي خطورة عن لامنطق البعث ثم لامنطق إيران الذي يعبّر عنه “حزب الله” وممارساته في لبنان أفضل تعبير بعد نصف قرن وسنتين من حرب 1973…