الديري تكتب: حين يُصاب الكرسي بجنون العظمة في الإدارات الأردنية
بقلم: حلا الديري
في خطوة لافتة، وجّه مواطن لرئيس الوزراء جعفر الحسان بضرورة إخضاع المدراء لفحوصات دورية، ليس فقط في الجانب الإداري، بل النفسي أيضًا، بعد ملاحظات متكررة حول إصابة بعضهم بما يُعرف بـ"جنون العظمة". وقد يبدو هذا القرار للوهلة الأولى غير مألوف في الإدارة الحكومية، لكنه في الحقيقة يسلّط الضوء على مشكلة حقيقية تعيشها المؤسسات منذ سنوات، وهي أن بعض المدراء بمجرد أن يجلسوا على الكرسي، يتوهّمون أنهم جلسوا على عرشٍ لا يُسأل صاحبه عمّا يفعل.
نلاحظ في مؤسساتنا، بل نكاد نلمسها يوميًا، تلك الحالة من “التحوّل” التي تصيب البعض بعد تقلّدهم المناصب. كأن الكرسي يحمل في داخله لعنة صغيرة تُبدّل الطباع، وتنفخ الأنا. فيتحول المدير من موظف عادي يعمل بروح الفريق، إلى شخص يتحدث من علٍ، لا يرى زملاءه إلا مرؤوسين، وينسى أنه في الأساس خُيّر ليكون قائدًا لا متسلطًا.
المدير عندما يجلس على كرسيه، لا يعني أنه ملك الدنيا. ذلك الكرسي لم يُصنع ليتربع عليه من يظن نفسه فوق الجميع، بل وضع ليخدم الموظفين، ويسهّل أعمالهم، ويقود المؤسسة نحو النجاح المشترك. الإدارة ليست سيفًا يُشهر على رقاب الآخرين، بل هي أمانة ومسؤولية.
جنون العظمة في الإدارة ليس مجرد وصف أدبي، بل حالة نفسية معروفة في علم السلوك التنظيمي، تصيب بعض الأشخاص حين يُمنحون سلطة دون رقابة أو تقييم. يشعرون بأنهم فوق الخطأ، وأن الكلمة الأخيرة يجب أن تكون لهم وحدهم. ومع الوقت، يبدأون بعزل أنفسهم عن الواقع، فيتحول الفريق إلى ضحايا، والمؤسسة إلى ساحة خوف لا إنتاج فيها ولا روح.
ولذلك، فإن توجيه المواطن لرئيس الوزراء يعيد التوازن إلى مفهوم القيادة. لأن الفحص الدوري ليس مجرد كشف عن الضغط أو السكر، بل عن نوع آخر من “المرض الإداري” الذي يُضعف المؤسسات ويهدر الطاقات. فحين يُصاب المدير بجنون العظمة، لا يتأذى هو وحده، بل كل من يعمل معه.
في النهاية، يبقى الكرسي اختبارًا حقيقيًا للشخص، لا للمكانة. من جلس عليه بتواضع ارتفع، ومن جلس عليه متعاليًا سقط، لأن السلطة – كما يقول الحكماء – لا تغيّر الناس، بل تكشف حقيقتهم.
في الواقع الإداري الأردني، باتت بعض الكراسي تُدار بعقلية “أنا ومن بعدي الطوفان”. نرى مديرًا يظن أن المؤسسة وُجدت لتخدم صورته، لا أهدافها. يحيط نفسه بالمصفقين، ويقصي الكفاءات التي تجرؤ على إبداء الرأي. لا يهمه إن تعطلت مصالح الناس أو تراجعت الإنتاجية، المهم أن لا يُمسّ “هيبته”. هكذا يُقتل الإبداع في المكاتب، وتتحول بيئة العمل إلى جدران صامتة تخشى الكلام.
الإدارة في جوهرها ليست وجاهة اجتماعية ولا مقعدًا محصنًا، بل هي مرآة للوعي والمسؤولية. والمدير الحقيقي هو من يثبت أن السلطة لا تُفسد صاحبها، بل تظهر معدنه. لذلك، فإن خطوة رئيس الوزراء ليست مجرد إجراء إداري، بل صرخة في وجه من جعل من الكرسي إدمانًا للنفوذ لا وسيلة للخدمة العامة.
فالمؤسسات لا تنهض بالشعارات، بل بعقولٍ تعرف أن المنصب لا يرفع الإنسان، بل عمله وتواضعه. ومن ينسى ذلك، لا يحتاج إلى فحص دوري فقط، بل إلى درسٍ في الإنسانية.