العايدي يكتب: إشكالية النهضة استنساخ الذات

 

النهضة لا تبدأ بالثروات ولا بالخطط السياسية، بل حين يعاد تشكيل الوعي الإنساني، فهو محور المعادلة، نخطئ عندما نظن أن النهضة حدثاً جزئياً يمكن جلبه عبر كمٍ من المشاريع الاقتصادية، أو عبر تلقي كمّ كبير من المعرفة، بل هي «حالة حضارية»، تبدأ بالتحول في الوعي والوجدان، حين يتحول الإنسان من»متلق للخدمات» إلى «مشارك في البناء» ومن مستهلك للحضارة إلى فاعل ومنتج لها، ففي كل أمة نهضت، وجد إنسان تيقن أن التغيير يبدأ منه، وفي كل أمة سقطت، وجد أن الإنسان ظن أن المشكلة في غيره.

هنا تكمن الإشكالية العميقة، عندما نبحث عن النهضة في الخارج، فحينها سنفقد علاقتنا بأنفسنا وبفكرنا وبزمننا، بينما النهضة مدفونة في داخلنا، لإنها تحول في بنية الوعي، وفي الطريق التي يرى بها الإنسان نفسه والعالم، تحول في الوعي من التكرار إلى طرح السؤال عما يدور في نفسه وما حوله، فلا يمكن لأمة غارقة في استنساخ ذاتها أن تبصر طريق النهضة، ولا يمكن لوعي مأزوم مبني على التقليد والخرافة والجمود أن يبدع، فالفكرة المبدعة هي المحركة التي تزرع في الإنسان معنى المسؤولية والكرامة والحرية، وتنقذه من الجلوس على قارعة الطريق يستجدي الحضارة، إلى إنسان فاعل ومساهم فيها.
هل يمكن أن نعيد بناء ذواتنا وتعريف أنفسنا وننهض من جديد؟ 
لكي يتحقق ذلك كما قال المفكر الكبير مالك بن نبي لا بد من إعادة بناء علاقة متوازنة بين الدولة والمجتمع والإنسان، فالحضارة هي مجموع الإنسان والتراب والوقت، ولا ينتفع الإنسان من التراب والوقت إلا إذا امتلك الفكرة المحركة، أي الوعي والغاية والمعنى، وهنا يظهر أن مشكلتنا ليست في نقص الثروات، بل في عجزنا عن إنتاج الأفكار التي تحول الثروات إلى حضارة، فالأفكار في عالمنا العربي والإسلامي تولد ميتة بين الخرافة والتقليد والجمود، ومن هنا فإن النهضة تبدأ بشرارتها الأولى من تجديد الفكرة، لا من استيراد الأدوات، فهي ليست وصفة جاهزة، بل تغيير في نمط التفكير، والقدرة على فهم ذواتنا، قبل أن نفهم العالم.
ونستذكر هنا حين استقلت سنغافورة في الستينيات من القرن الماضي، كانت جزيرة صغيرة، تعاني الفقر والانقسامات العرقية، قليلة الموارد، لكن أهلها أدركوا أن النهضة تبدأ من الإنسان، فبدأوا ببنائه، لا ببناء الأبراج، بل بنوا نظاماً تربوياً صارماً، يربط بين المواطنة والوعي الأخلاقي، وبين الانضباط والعمل، وغرس فكرة» النزاهة» كمبدأ وطني لا كشعار سياسي، فتحول الوعي إلى رأس مال قوي، جعلها من أنظف وأكفأ الدول في العالم، وما انطبق عليها انطبق على غيرها من الدول: كاليابان ورواندا وفلندا، كلهم بدأوا النهضة من الإنسان.
لذا فالنهضة ليست قراراً سياسياً ولا خطة تنموية، ولا مواعظ، والأمم لا تنهض حين تصلح مؤسساتها فقط، بل حين تصلح الإنسان الذي يدير هذه المؤسسات، ومن أجل ذلك لا بد من أن نعيد ترتيب العلاقة بين ذواتنا والعالم، وبين ماضينا والمستقبل، فقد فقدنا البوصلة بين ما نؤمن به وما نعيشه، وبين ما نقرأه وما نفعله، وعلينا أن نحول العقل من أداة للحفظ إلى وسيلة للفهم، والإيمان من شعارات إلى طاقة للعمل، عندها ستنكسر سلاسل الانهزام، ويبدأ مشوار النهضة.
وكما لا يمكن أن نحتمي بظل الماضي لعلاج الحاضر وفهم المستقبل، كذلك لا يجب علينا أن نعيد إنتاج ما أنتجه الغرب، بل علينا أن ننتقل من الانبهار إلى الاستنارة، ونعيد بناء الإنسان بوصفه فاعلاً في التاريخ لا مفعولاً له، ونؤمن أن النهضة ليست صراعاً بين القديم والجديد، بل توليفة مبدعة بينهما، فالتراث يجب أن يكون كجذوة تنير الطريق، لا كجثة تثقل بها المسير.
وختاماً... حين ندرك أن النهضة ليست معركة ضد أحد، بل معركة ضد جهلنا بأنفسنا، نكون قد بدأنا أول الطريق، وما لم يتحول السؤال عن النهضة من خطاب أكاديمي إلى قلق وجودي في وجدان الإنسان، فستبقى النهضة فكرة مؤجلة، تتردد في المؤتمرات وفي أروقة الجامعات والصالونات الفكرية، لا «حالة حضارية» نعيشها بوعي، وتبدأ مع إدراك الإنسان أن الخلاص يكون من داخله.