أبو زينة يكتب: أن تفكر كفلسطيني..!
«الخيارات الواقعية» في الحالة الفلسطينية (1)
ينطوي مصطلح «الخيارات الواقعية» في الخبرة الفلسطينية على مغالطة منطقية. على امتداد تاريخهم الحديث، ربما منذ فلسطين الانتدابية على أقل تقدير، لم تكن العروض المقدمة للفلسطينيين والموصوفة بهذا الوصف «خيارات»، بمعنى امتلاكهم القدرة على الموازنة بين بدائل ممكنة وعادلة. في الواقع، غالبًا ما كانت هذه «الخيارات» في حقيقتها خيارا واحدا وحيدا تفرضه قوى خارجية أو فاعلون أقوياء، بلا هامش للفلسطينيين للتمتع بوكالة معقولة على أنفسهم وخياراتهم. وكان وصف «الواقعية» تبريرا لفرض شروط الخضوع وتطبيع الظلم والهيمنة، بصيغة: إما أن تقبلوا، وإما العزلة أو الفناء التاريخي أو الفيزيائي –حيث الفناء، بأي من المعنيين، ليس بديلًا إنسانيًا من الأساس
نظريًا، يُوصف بأنه «الخيار الواقعي» ما يُفهم على أنه المسار القابل للتحقق ضمن محدوديات الظروف القائمة، والذي لا يكون تصوّرا نظريًا لمثل مجردة أو تطلعات لا يمكن بلوغها منطقيًا. ويستند هذا التعريف إلى فكرة العملانية: فكرة أن مسار عمل ما يمكن سلوكه من دون الحاجة إلى الإطاحة بالهياكل القائمة للسلطة، أو خلق شروط مادية جديدة كُلِّية. وبالمعاني السياسية والفلسفية، غالبًا ما تكون هذه «الواقعية» مشروطة بإدراك القيود المفروضة –عسكرية، اقتصادية، أو دبلوماسية- التي ترسم حدود الممكن وفقًا لشروط القوي. وبذلك، لا يكون «الخيار الواقعي» أي خيار قد يرغب المرء في اتخاذه، وإنما «الخيار» الذي يمكن تحقيقه لأنه ما يسمح به ميزان القوى الفعلي القائم.
ثمة بعض المعايير الأساسية التي يمكن استخدامها لوصف خيارٍ ما بأنه «واقعي». أولها قابليته للتحقيق في ظل البنية القائمة، من دون الحاجة إلى تحويل ثوري في هياكل القوة القائمة. وثانيها اتساقه مع الموارد المتاحة فعليًا للجهة التي يُعرض عليها الخيار، ماديًا ومؤسسيًا، وليس مع ما ينبغي أن يتوفر لها لكي تختار بعدالة. وثالثها رضى القوى المهيمنة عن «الخيار» أو استعدادها للتسامح معه. والمعيار الرابع هو ربط الواقعية أحيانًا بتقليل حجم الضرر مقارنة بالبدائل الأخرى، مثل ترتيب غير عادل ولا مثالي بوضوح، لكنه يمكن أن يوقف سفك الدماء. وأخيرًا، عادة ما يُنظر إلى الخيارات الواقعية على أنها خطوات عملية، تدريجية، وقابلة للتنفيذ أكثر من كونها تغييرات شاملة تستدعي هدم الأنظمة القائمة.
إذا ما أُخذ منزوعًا من كامل السياق، سوف يبدو الدفاع عن «الخيار الواقعي» في أي نقطة معزولة من السياق الفلسطيني مبرَّرًا. ضمن موازين القوى القائمة وشروط البيئة المحيطة في تلك اللحظة، سيكون الخيار الواقعي للفلسطينيين هو القبول بما يعرضه عليهم الأقوياء، أو لا شيء، نقطة. ولكن، إذا كان التأمل في هذا الفهم للواقعية ليعني أي شيء في سياق عنوانه «الخيار الواقعي» الوحيد، فإنه سيوفر على الأقل منظورًا لمحاكمة نظرية لفكرة «الخيار الواقعي» في الخبرة الفلسطينية. وإذا كان هذا متاحًا، سيمكن افتراض أن الفهم السائد لهذا المفهوم في الخبرة الفلسطينية، بينما يبدو في ظاهره براغماتيًا، يظل مثقلًا بالمشكلات.
يعني وصف مسار ما بأنه «الواقعي» و»الوحيد» الحكم بإعدام أي بدائل أخرى، باعتبارها مستحيلة، غير قابلة للتحقق –أو حتى غير مشروعة. وهو حكم ليس حياديا. في الغالب الأعم في السياقات الاستعمارية، غالبًا ما تكون ما توصف بأنها «واقعية» نتاجًا لتراكمات من المظالم التاريخية التي ضيّقت باستمرار حيز الإمكانية على الطرف المستضعف. وبذلك، يكون ما يبدو عملانيًا في الحاضر نتاجًا محسوبًا للقهر والاستلاب في الماضي. وبذلك تعمل الواقعية كآلية لتطبيع وشرعنة وإدامة هياكل الاضطهاد والهيمنة نفسها. إنها لا تقول للمقهورين ما ينبغي أنهم يستحقونه كمسألة حق، وإنما تخبرهم بما يجب أن يقبلوه، عملانيًا، كأمر واقع.
هذا هو نوع التوتر الدائم الملازِم لكل أطوار القضية الفلسطينية بلا استثناء تقريبًا. على مدى أكثر من قرن الآن، منذ هبوط «إعلان بلفور» 1917 على الفلسطينيين بالمظلة كقدر مفروض، لم يُعرض على الفلسطينيين إلا ما تُسمى بـ»الخيارات الواقعية» الإجبارية. في العام 1947، طُرح على الفلسطينيين «مشروع التقسيم» باعتباره «الخيار الواقعي»، مع أنه يحرم أصحاب الأرض الأصليين التاريخيين من حقهم الأساسي في السيادة على وطنهم مثل أي أمة أخرى. وعندما رفض الفلسطينيون ذلك «الخيار الواقعي»، وُصِفوا بأنهم طوباويون أو غير عقلانيين، حتى بينما كانت الخطة نفسها ضربًا من الخيال الطوباوي، الذي افترض أن غرسًا استعماريًا تمكن شرعنته بفرضه بقرار استبدادي وقبوله كحقيقة طبيعية.
ثم، بعد عقود من السلب المتواصل، عرض عليهم «حل الدولتين» الذي لم يطالبهم هذه المرة التنازل عن نصف وطنهم التاريخي مثل «خطة التقسيم»، وإنما جردهم من أكثر من ثلاثة أرباع وطنهم لمستعمر لا يملك أي حق فيه. كما جردهم أيضًا من حق العودة الأساسي الذي ينزع الفلسطينية عن معظم الفلسطينيين. وقد قُدم هذا العرض على أنه «الخيار الواقعي الوحيد»، حتى مع أنّ التوسع الاستيطاني الإحلالي جعل تطبيقه مستحيلًا جغرافيًا. وربما لا تكون هناك مشكلة أساسية في وصف هذا «الحل» بأنه «الخيار الممكن»، أو «الواقعي». لكنّ ثمة مشكلة في وصفه بأنه «عادل» و»شامل»، و»نهائي. إن هذا يعني نزع أي شرعية قانونية عن أي مطالبات لاحقة للأغلبية الكبيرة من الفلسطينيين الذين يستبعدهم هذا «الحل» بتفكيك النظام الاستعماري أو أي وسائل لاستعادة حقهم في فلسطين التاريخية.
واليوم، يُطرح على الفلسطينيين، تحت الإبادة الجماعية والتطهير العرقي بلا منقذ ولا نصير، نفس «الخيار الواقعي». وكما قال معلق أميركي/ صهيوني في إحدى المقابلات، فإن «هذا ’الحل‘ كتبه المنتصر». و’إسرائيل‘ هي المنتصر»، الذي يحق له –في نظره- أن يكتب «الخيار الواقعي». مرة أخرى، لا محل هنا للسياق التاريخي الذي جعل هذا «الواقعي» واقعيًا. وبطبيعة الحال، العدالة فكرة طوباوية لا يمكن أن تُطرح أساسًا كبديل.