الرجبي يكتب: صرخات الفنانين الأردنيين إلى متى؟
الصرخات التي أطلقها مجموعة من الفنانين الأردنيين احتجاجًا على أوضاعهم المعيشية والفنية يجب ألا تمر دون اهتمام، ومن الـمهم أن تدق ناقوس الخطر، لضرورة أن تجعل الدولة الأردنية – ولا أقول الحكومة فقط- الفن والأدب والصناعات الإبداعية الـمختلفة في مكان مهمٌ من أولوياتها.
لا شك أن لدينا في الأردن قامات فنية كبيرة وعمالقة ينقصها فقط مشروع كبير يقدمها للعالم العربي، ويجعلها تتنافس في عالم الدراما والسينما، والمسلسلات، لتعيد الألق الكبير للدراما الأردنية التي نافست ذات زمان، وانتشرت، ومن هؤلاء الفنانين من هو على قيد الحياة، يصارع الظروف المعيشية الصعبة، وقلة الإنتاج الأردني في مجال الدراما ومنهم من رحل إلى العالم الآخر، بعد أن قدم للفن جهده، وصحته، وعرقه، وعافيته، والغالبية منهم لم يحصلوا على التكريم الذي يليق بهم بعد.
في هذا السياق لن أناقش بتوسع الضجة الكبيرة التي ثارت حول حصول الفنان الـمتميز يزن النوباني على عقد من التلفزيون الأردني، ثم انسحابه، واعتذاره عن العمل، فقد لاحظت سوء فهم في أحيانٍ كثيرة، وتضليل في بعض الـمنشورات التي كتبت أو بثت حول هذه القضية، وكثيرون كانوا يصفونه بالمؤثر – استحضارا لبعض المكونات السلبية عند الغالبية من الناس-، ولا يعطونه صفته الحقيقة، وهي أنه فنان شباب قبل أن يكون مؤثرًا، استطاع أن يكتسب شعبية كبيرة، وقدم محتوى جميلًا، شخصيًا شاهدت مسلسلاته كلها.
صعقت وأنا أتابع بعض النقاشات في صفحات منصات التواصل الاجتماعي حول هذا الـموضوع، والتي اتخذت مسارات غير محمودة، ويكفي أن أشير في هذا السياق إلى أن الفنان المنتشر، عندما يحصل على مبلغ معين من الجهة المنتجة، فإنها – أي هذه الجهة– ستحصل على هذا المبلغ، وفوقه الكثير من الجهات الراعية، فهذا هو منطق السوق الإعلامي، والتجاري، ومن لا يعرفه لا يدرك ماذا يحصل، ومن جهة أخرى فإن المبلغ المذكور الذي كان يفترض أن يكلفه الـمسلسل لم يكن للفنان وحده، بل هو تكلفة إنتاج العمل كاملًا.
لم يقتصر الهجوم على الفنان يزن النوباني نفسه، بل وطال شاشتنا الوطنية، والبعض انتقدها بأسلوب إيجابي من باب الحرص على المصلحة العامة، وآخرون ثاروا لأن الـمعلومات التي وصلتهم غير دقيقة، أو أنها أطرت بشكل ممنهج، وبعضهم وبحسن نية قرأ الـمشهد بشكل غير كامل، وكان واضحًا من بعض النقاشات وكأن هناك من قد يتضرر من أي خطوة في الاتجاه الصحيح يأخذها التلفزيون الأردني لزيادة انتشاره، ومتابعته، متناسين أن هذه المؤسسة قدمت لنا، وما زالت تخرج عددًا كبيرًا من الـمبدعين، والفن الأردني في ذروة انتشاره مدين لهذه المؤسسة بهذا الانتشار، وأنا هنا لا أنكر أن هناك عثرات أصابت مسيرة تلفزيوننا الغالي، وأننا نطمح أن يدار بشكل مختلف، وأن يفتح أبوابه لكل الـمبدعين الأردنيين، وأن يحظى بميزانيات أكبر، ولكن ذلك كله لا يبرر لأحد أن يشطب تاريخه المشرف، وأن يتناول موضوعه باستهزاء وسخرية.
ونعود لفنانينا الأردنيين أصحاب القامات العالية، فنحن نقدر عتبهم على التلفزيون الأردني، وعلى الـمجتمع بأكمله، ولن آتي بجديد عندما أطالب بالانفاق بسخاء وذكاء على الإنتاج التلفزيوني، والسينمائي، والأدبي، والتشكيلي وغيره، لأن هذا جزء من صناعة القوة الناعمة التي تتحالف مع القوى الأخرى لتصنع قوة كبيرة لأي بلد في العالم، ومع ذلك، ندرك أن هناك عثرات، وأخطاء في مسيرتنا في هذا المجال، ولا بد من أن نعيد هيكلية أساليب الإنتاج الفني الرسمية، لتكون بعيدة عن المجاملة، ولتفتح المجال لكل الطاقات، والمواهب في الأردن، وأن تستند فقط لمعايير الإبداع، بعيدًا عن أي اعتبارات أخرى.
تجارب الدول الأخرى في هذا المجال أكدت أن أي مجاملة، أو عدم العمل باحترافية في انتقاء الأعمال الفنية ابتداء من السيناريو، وأدوات الإنتاج، ووصولا إلى فريق العمل كاملًا يؤدي إلى تشويه العمل، وإضعاف قدرته على المنافسة، وفي النهاية فإن صناعة الفن، والأدب، وكافة الفنون الإبداعية تخضع لمنطق السوق، وتحتاج إلى تجويد مستمر كي تنافس، وعندما نتحدث هنا عن منطق السوق لا نعني أن نصل إلى مرحلة "الجمهور عاوز كدة"، بل أن نعمل على إنتاج راقٍ يساهم برفع ذائقة الناس، وفي الوقت نفسه يصل إلى أوسع شريحة من الجمهور، وهذه ليست معادلة مستحيلة، بل هي مجربة في كثير من الدول وناجحة.
لا بد من الوصول إلى صيغة إنتاجية أردنية يتم فيها توفير تمويل حكومي، وخاص، لرفع سوية الفن الأردني، ويمكن في هذا السياق اللجوء إلى وقفية تساهم برفد تمويل الأعمال الفنية بشكل كامل، وأن ندرك أن مصلحة الجميع في بلدنا العزيز الأردن هي رفع مستوى الإنتاج الفني الأردني، وتوفير فرص العمل لفنانينا وللعاملين في هذا القطاع كافة، وأن نبني على الإنتاج الذي يقوم به التلفزيون، مع تجويده، وفتح المجال فيه لجميع الـمبدعين في الـمجالات كافة، ووقتها، يعود الفن الأردني إلى سابق عهده من القوة والانتشار، وهذا جزء من بناء الصورة الحقيقية الإيجابية لبلدنا وإيصالها للآخرين.
نحتاج من فننا الأردني أن يعكس الـمجتمع، وأن ينتج في الـمجالات كافة البدوية، والمدنية والقروية، أن ينوع في مواضيعه، وأشكاله، وأن ندعم التجارب الشبابية، ونعظم من دور الهيئة الملكية للأفلام – التي حققت إنجازات ملموسة وذكية-، وأن نجعل الفن والأدب، والإبداع بمختلف أشكاله جزءًا من الأولويات الوطنية، ووقتها نكون قد وضعنا قطارنا على سكته الحقيقية.
مع حفظ الألقاب وعلى سبيل المثال لا الحصر: زهير النوباني، شايش النعيمي، عبير عيسى، عبد الكريم القواسمي، ناريمان عبد الكريم، صبا مبارك، موسى حجازين، روحي الصفدي، وعبد الكامل الخلايلة، وغيرهم المئات، ممن نفتخر بهم يستحقون منا مشروعًا وطنيًا متكاملاً للفن الأردني، ينتج محتوى جديدًا، ويعيد نشر الـمحتوى القديم رقميًا، بصورة لائقة تليق بمن هو على قيد الحياة منهم، ومن رحل عنا – رحمهم الله-.
ويكفي في ختام هذا الـمقال أن نقول أن جزءًا مهمًا من صورة أي بلد هي ما يقدمه من فنون، وآداب، وصناعات إبداعية، ولا بد أن يأتي يوم لا يضطر فيه الفنان الأردني إلى كتابة بيان، أو إطلاق صرخة استغاثة، ووقتها نكون على الطرق الصحيح.