النقرش يكتب: عصر الانكسار والسقوط العربي

 

 

الدكتور إبراهيم النقرش

نعيش اليوم زمنًا مظلمًا في تاريخ الأمة العربية، زمنًا خرجنا فيه من ساحة التاريخ إلى هوامشه، بعد أن كنا أمة تصنع المجد وتنشر النور، وأصبح علية العرب (كشهود يهوه Jehovah's Witnesses) شاهِدين على أنفسهم بالفجور والثبور من بيت إلى بيت ينشرون خيبتهم. لم نعد نكتب التاريخ بـ(بيّض الله وجهك) بل يُكتب علينا بـ(سوّد الله وجهك). لم نعد نرسم حاضرنا أو مستقبلنا بل يُرسم لنا في عواصم الغرب (تُخطّه الخطّاطة بالخرز والودع.. قدامك سواد وجه بنفق مظلم طويل.. وأنت محسود.. وشعبك عامله سحر).

الصهيونية والغرب يشلّاننا كما تُشلّ الأطفال بطابة الشرايط (صرنا مشلّتين)، يحددان مصائرنا، يرسمان حدودنا، ويقرّران من يحكم ومن يسقط، ومن ربنا، وما ديننا، ومن نبينا، وما كتابنا، وإلى الجنة أم النار نحن صائرون… لنصب في قناة الإبراهيمية. القضية الفلسطينية – التي كانت بوصلة العرب – تحولت إلى ورقة مساومة، وتكييفات ومعاهدات، ومتردية وتنّيحة تنهشها الكلاب.

لقد انهارت منظومة القيم والأخلاق: الدين أُفرغ من جوهره وصار أداة خيانة وتقريع بيد من يسوس به متسلّط. العروبة تمزّقت وصارت عبئًا نخجل من طريها أمام الآخرين. والإسلام ثلمة في وجهنا، والكرامة تبعثّرت وتتبخّر حتى صارنا نستدعى فقط لإضفاء شرعية على اغتصاب أرضنا وقتل شعبنا ونزع سلاحنا، ونتبنّى ونسوّق قرارات الفجور بأهلنا.

أما الأنظمة العربية والإسلامية، فهي صُنّاع الهزيمة وحُرّاس التخاذل والتناحر والفرقة، يستدعيهم كاهن الغرب وساحره، يهرولون ملبّين: «لبيك يا حبيبي ترمب، لبيك». أمرك؛ نحن أدوات بين يديك. نعم، يتسابقون إلى كبير الغرب الذي علمهم السحر (مكّار على سحّار) ليصنع لهم سايكس بيكو جديدًا له خُوار لنعبده وتعيش الأمة في ضلاله باقي أيامها، وكأن الكرامة لم تكن يومًا جزءًا من هوية هذه الأمة الولود. ضيّعوا القوة العسكرية حين حوّلوا جيوشهم إلى أدوات قمع داخلية استعراضية، وأضاعوا القوة السياسية حين أصبحت الوطنية وقرارها يُكتب بالحبر الأحمر في البيت الأبيض، وأضاعوا القوة الاقتصادية حين ارتُهنت موارد الأمة للغرب. لم يعد للعرب مشروع وطني أو قومي (طبعًا إسلامي لا تجيب سيرته)، بل مشروع وحيد هو مشروع البقاء في الحكم، ولو كان الثمن سحق الشعوب وضياعها.

المأساة الكبرى تتجلّى في أن العرب (أيام أن كانوا مسلمين حقًا) كانوا روّاد الحضارات وقادة العالم، فتحوّلوا إلى «غاسلي صحون وشراشف طوايل» في مطابخ السياسة العالمية القذرة. لم نعد أصحاب قرار، ولا شركاء في صنعه، بل مجرد منفذين لأوامر الأنكل سام عبر الفاكس والإيميل. نُستدعى فقط عندما يحتاجون إلى توقيع، أو عندما يريدون منا أن نمول حروبهم، أو أن نكون أدوات لشرعنة مخططاتهم لسحق شعوبنا واغتصاب عرضنا وأرضنا.

لقد انحدرنا من أمةٍ تقود العالم بالعلم والفكر والسيف إلى أمةٍ مفعولٌ بها ممنوعة الوجود، تنتظر أن يُملى عليها حتى أبسط تفاصيل حياتها.

نحن اليوم في ذيل الأمم، مجرد عمّال في مطبخ سياسي قذر لا يرحم إلا من به طاقة ردع؛ نغسل الطناجر والصحون بعد أن يفرغ الكبار من الوليمة. أي ذل أعظم من هذا؟

أحرار العالم يتنادون لحمل السلاح وتشكيل الجيوش لحماية أهلنا واسترجاع أرضنا وعقال كرامتنا. فأي لبوة أرضعتهم؟ وأي أتانة أرضعتنا؟ إنه زمن الانكسار والسقوط العربي.

المواطن العربي نفسه لم يسلم من هذا الانكسار والسقوط؛ فهو ينتظر الموت فباطن الأرض له خير من ظاهرها. يقف ذليلًا في طوابير العبودية: طوابير الخبز، طوابير البطالة، طوابير المساعدات، وطوابير النفاق على أبواب الحكام. لم يعد مواطنًا حرًا بل تابعًا مكسور الخاطر والإرادة، يعيش بلا مشروع، بلا هدف، بلا كرامة.

إنه زمن الانكسار والانحطاط العربي، حيث أصبح الذل هويتنا، والعار لزمنا ميراثًا، والهزيمة قدرًا كتبناه بأيدينا وتتناقلها الأجيال. أمةٌ كانت في الصدارة صارت تتسوّل مكانًا في ذيل الأمم، تستورد غذاءها وسلاحها وقرارها وفكرها، حتى غدت مجرد ذَنَب يهشّ على الذبان.

الفرج لن يأتي إلا من الله. الأنظمة أفلست، بيعت كل مقدوراتها وهم في الشوط الأخير قبل الموت من السعي بين «صفا» الصهيونية و«مروة» أمريكا، لكن إرادة الشعوب لن تمت أبدًا. إذا عادت الأمة إلى قيمها الأصيلة – دينها الحق، كرامتها، حريتها – فقد تستعيد مكانها بين الأمم. أما إن استمرت في غسيل الصحون وجلي الطناجر في مطابخ السياسة القذرة، فستظل عارًا على نفسها وعلى التاريخ. ويبقى هذا هو زمن الانكسار والسقوط العربي المخزي.