د. زيد بن علي الفضيل يكتب: توم باراك والجواب الأوروبي السريع

 

 

د. زيد بن علي الفضيل

كأني بالمبعوث الأمريكي للشرق الأوسط توم باراك خلال أحاديثه المتعددة والتي أثارت جدلا واسعا في الأوساط الإخبارية، يريد استعادة اللحظة الاستعمارية الأولى التي تم تقسيم المنطقة وفق خريطتها، ولكن في هذه المرة وفق رؤية حديثة ظاهرها إسرائيلي وباطنها أمريكي. 

في حديثه الأول أشار إلى عدم اعتراف إسرائيل بحدود "سايكس بيكو"، وفي حديثه الثاني أنكر وجود الدولة الوطنية في الشرق الأوسط مشيرا إلى انتفاء مقومات تأسيسها، وفي حديث آخر استبعد أي فرص للسلام مع إسرائيل، والمحصلة أنه يعمد إلى إسقاط الدولة الوطنية الحديثة، ليفسح الطريق لإعادة تشكيل المنطقة جيوسياسيا بالشكل الذي يُراد له صهيونيا في الوقت الراهن. 

اللافت في الأمر أنه استخدم في تصريحه الأول مصطلح "سايكس بيكو" حين حديثه عن رفض إسرائيل لحدود الدول العربية المجاورة، وفي ذلك إشارة واضحة للعودة إلى اتفاق وزير خارجيتي بريطانيا وفرنسا لتقسيم المنطقة العربية، والذي أثمر عما نحن عليه اليوم من دول وطنية، بحدود سياسية واضحة.

غير أن ذلك لم يعد مقبولا لإسرائيل والتي تريد تكوين دولتها الكبرى وفق ما أعلنه قادتها، كذلك الحال للصهيونية الأمريكية والتي تريد تشكيل ملامح وحدود الجغرافيا السياسية من جديد وفق رؤيتها وحاجتها واستراتيجيتها، فكان أن رمت مجسَّ اختبار عبر تصريح المبعوث الأمريكي، لمعرفة حدود وحجم التفاعل مع هذه الرؤية الجديدة على الصعيد العربي والأوربي بوجه خاص.

ويظهر أن الجميع قد فهموا المغزى النهائي من ذلك، فكان جوابهم واضحا وصريحا سواء على الصعيد العسكري أو السياسي، حيث حذر القادة العرب وبخاصة في الأردن ومصر من اللعب بالنار، رافضين أي محاولة لإعادة تخطيط المنطقة جيوسياسيا وفق الرؤية الإسرائيلية الجديدة المدعومة أمريكيا، ثم كان تجمهرهم خلف المبادرة السعودية الداعية للاعتراف بحل الدولتين، وهو ما شهده العالم في الـ22 من شهر سبتمبر 2025م. 

كذلك الأمر مع القارة العجوز التي تسارعت دولها المركزية إلى تأييد المبادرة السياسية السعودية لحل الدولتين، بل وقامت فرنسا بالاشتراك مع السعودية في حشد العالم لتأييد مقترحها القاضي بالاعتراف بدولة فلسطينية، وكأني بفرنسا وبريطانيا وهما الدولتان الأوربيتان اللتان شكلتا اتفاق سايكس بيكو، يردّانا على تصريح باراك عمليا، ويُعلنا موقفهما الرافض لأي تغيير في خارطة الشرق الأوسط، ليس من باب الحرص على أمن المنطقة، وإنما من باب تأكيد ما تبقى لهم من نفوذ يتم تجاهله أمريكيا وبخاصة في عهد الرئيس دونالد ترامب.

أشير إلى أمرٍ لم يسبق له مثيلا في واقع السلوك السياسي الأمريكي إزاء أوروبا بوجه خاص، حيث لم تشهد العلاقة الأوروبية الأمريكية أي توتر ظاهري طوال العقود السالفة، بل ومثلت العلاقة البريطانية الأمريكية ذروتها، وحافظ رؤساء الولايات المتحدة على اختلاف توجهاتهم بين جمهوري وديموقراطي على دبلوماسية العلاقة ومظهرها الودي حتى في ظل أوج اختلاف السياسات بين الولايات المتحدة ومختلف الدول الأوروبية. 

غير أن الحال مختلف كليا في عهد الرئيس ترامب الذي تخطى كل أنواع البروتوكول الدبلوماسي، وتجاوز كل سمات الخطاب الوقور مع ساسة القارة العجوز، انطلاقا من عقل تجاري بحت، وبحكم انتفاء انخراطه في العمل الدبلوماسي أساسا قبل توليه سدة الحكم، حيث نعلم بأنه نزل على البيت الأبيض مظليا ودون أن يتدرج في دهاليز الحكم والسياسة الأمريكية، وهو ما يظهر في سلوكه النافر البعيد عن الأدب الدبلوماسي، والذي يميل إلى الاستعراض بشكل رئيسي. 

وقد وضح هذا السلوك المرتكز على فكرة الاستعراض في عديد من خطاباته، بل وتمثلت بشكل أوضح في الاستهانة بقادة أوروبا علنا حين استقبلهم في مكتبه بالبيت الأبيض جلوسا أمامه كتلاميذ أو موظفين كما جاء في بعض التعليقات الأوربية، الأمر الذي حفز قادة القارة العجوز لأن يوجهوا له رسالة مفادها: أن القوة في العقل وليس العضلات، وذلك بتتابع اعترافهم بالدولة الفلسطينية في اجتماع الجمعية العامة رفيعة المستوى السالف ذكرها، وهو اعتراف ينطلق من خطتهم الرئيسة التي أسست لقيام دولة إسرائيل ذاتها وفق قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم181 بتأريخ 29 نوفمبر 1947م القاضي بإنهاء الانتداب البريطاني على فلسطين، وتقسيم أراضيها إلى دولة فلسطينية وأخرى يهودية ومنطقة ثالثة مشتركة بين الثلاث الديانات السماوية. 

إذن هو صراع غربي غربي في هذه المرة، وهو صراع حققت فيه أوروبا نقطة لصالحها في إطار أزمة الشرق الأوسط، مما جعل الرئيس ترامب يستفيق من غفلة القوة التي سيطرت عليه، ليعمل على استعادة موقعه سياسيا حال لقائه بقادة الدول الثمانية من العرب والمسلمين، وذلك من خلال ضغطه على نتنياهو وحكومته للتوصل إلى اتفاق بخصوص غزة، وإنهاء الحرب الدائرة فيها عبر خطة شاركها مع قادة الدولة الثمانية، تقضي بإنهاء الحرب فوراً، وانسحاب إسرائيل، وإعادة جميع الرهائن الأحياء والأموات مقابل مئات الأسرى الفلسطينيين الذين يقضون أحكاماً بالسجن المؤبد، وأن تُدار غزة من قِبل حكومة انتقالية مؤقتة من التكنوقراط الفلسطينيين، على أن يتم إنشاء قوة استقرار دولية مؤقتة، تُدرّب قوة شرطة فلسطينية، لتكون بمثابة جهاز أمن داخلي على المدى الطويل.

هكذا أرادت الولايات المتحدة أن تستعيد إمساكها بالخيوط من جديد قبل أن تنسحب من بين يديها لصالح القوى التقليدية ممثلة بالدول المركزية في أوروبا، أو القوى الجديدة كالصين وروسيا، ناهيك عن القوى العربية الصاعدة والتي يأتي على رأسها المملكة العربية السعودية.