نصراوين يكتب: الملك يحاكم إسرائيل بميزان القانون الدولي
أ. د. ليث كمال نصراوين
ألقى جلالة الملك عبد الله الثاني خطابه السنوي في افتتاح أعمال الدورة الثمانين للجمعية العامة للأمم المتحدة، ولم يأتِ حديثه على شكل بيان سياسي بروتوكولي اعتيادي، بل اتخذ هيئة مرافعة قانونية متكاملة الأركان، تُدين الاحتلال الإسرائيلي من منظور القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي العام، وتُحمّل المجتمع الدولي مسؤولية تقاعسه عن أداء واجباته..
فقد بدأ الملك كلامه بالإشارة إلى الأساسيات التي يقوم عليها النظام الدولي المتمثلة بالمادة (2/4) من ميثاق الأمم المتحدة التي تحظر على أعضاء المنظمة الأممية التهديد باستعمال القوة أو استخدامها ضد سلامة الأراضي أو الاستقلال السياسي لأي دولة أخرى. بالتالي يكون استمرار الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية منذ عام 1967 خرقًا دائمًا لهذه القاعدة الآمرة، بما يفقده أي غطاء شرعي، خاصة وأن الاحتلال ليس وضعًا انتقاليًا ولا استثناءً مؤقتًا، بل ممارسة متصلة تجعل من بقاء إسرائيل في هذه الأراضي حالة غير قانونية.
كما استحضر الملك في خطابه العديد من قرارات مجلس الأمن، ولا سيما القرار رقم (2334) الصادر عام 2016، الذي جاء فيه أن المستوطنات في الأراضي الفلسطينية المحتلة "ليس لها شرعية قانونية وتشكل انتهاكًا صارخًا بموجب القانون الدولي". فبهذا الربط المباشر بين الوقائع والنصوص، أعاد الخطاب التأكيد على مبدأ التزام الدول بعدم الاعتراف بالأوضاع غير المشروعة، كما قررته محكمة العدل الدولية في رأيها الاستشاري الصادر عام 1971 بشأن ناميبيا، والذي أكدت فيه أن الدول الأعضاء ملزمة بعدم الاعتراف أو التعامل مع نظام الاحتلال غير القانوني الذي فرضته جنوب إفريقيا.
كما يلتقي الخطاب الملكي مع الرأي الاستشاري الصادر عن محكمة العدل الدولية بشأن الجدار العازل لعام 2004 الذي أكد أن بناء الجدار والإجراءات المرافقة له تشكل خرقًا للقانون الدولي الإنساني ووضعًا يعيق الفلسطينيين من ممارسة حقهم في تقرير المصير. فالمحكمة آنذاك طالبت جميع الدول بعدم الاعتراف بالوضع غير المشروع الناشئ عن بناء الجدار، وبالامتناع عن تقديم أي دعم أو مساعدة لاستمراره.
أما المسألة الأكثر إلحاحًا في الخطاب الملكي فقد كانت جريمة التهجير القسري، حيث شدد الملك على أن نقل الفلسطينيين من أراضيهم لا يشكل مجرد مأساة إنسانية، بل انتهاكًا محددًا للقانون الدولي، إذ تنص المادة (49) من اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 على أنه "يحظر النقل الجبري الفردي أو الجماعي، وكذلك ترحيل الأشخاص المحميين من الأراضي المحتلة إلى أراضي دولة الاحتلال أو إلى أراضي أي دولة أخرى". فما يجري في غزة والضفة الغربية اليوم يتقاطع مع هذا النص الحرفي، مما يجعل منه جريمة حرب يجب أن تفتح الباب للمساءلة أمام المحكمة الجنائية الدولية بموجب نظام روما الأساسي.
وإلى جانب التهجير، أبرز الملك وقائع أخرى ترقى إلى مرتبة الجرائم الدولية؛ إذ أشار إلى تدمير المستشفيات والمدارس ودور العبادة، وإلى انتشار المجاعة المتعمدة، وهي أفعال يصفها نظام روما الأساسي صراحة كجرائم حرب. كما أن سقوط عشرات الآلاف من المدنيين، ومن بينهم آلاف الأطفال، يمس مباشرة جوهر الحق في الحياة المكرّس في المادة (6) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، ما يجعل من هذه الجرائم خرقًا لأسمى الحقوق الإنسانية التي لا تقبل الانتقاص.
ولم يقف الخطاب الملكي عند تسمية الجرائم والانتهاكات، بل تناول قضية الإفلات من العقاب بوصفها أصل الداء، حيث أوضح الملك أن غياب المساءلة القانونية الدولية كان السبب في تكرار الانتهاكات. وهنا يجد الخطاب سنده القانوني في القرارات القضائية التي أصدرتها المحاكم الدولية الخاصة بيوغسلافيا ورواندا، والتي قضت بأن غياب الردع الجزائي يفتح المجال لتكرار الجرائم الجماعية.
وفي هذا السياق، يُفهم خطاب الملك على أنه دعوة صريحة لتفعيل مبدأ "المسؤولية عن الحماية" الذي أقرته الأمم المتحدة عام 2005، والذي يحمّل المجتمع الدولي واجب التدخل لحماية المدنيين عند فشل الدولة القائمة أو امتناعها عن حمايتهم.
ولعل البُعد الجديد في خطاب الملك أنه قد خاطب الجانب الإسرائيلي بحكمة وعقلانية مؤكدا لهم أن السلام هو الخيار الاستراتيجي الوحيد للعيش المشترك بأمن وطمأنينة. فهذا الطرح يتوافق مع مبدأ التسوية السلمية للمنازعات الوارد في المادة (33) من ميثاق الأمم المتحدة، الذي يُلزم الأطراف باللجوء إلى الوسائل السلمية لحل نزاعاتها. فبهذا الطرح يكون الملك قد أعاد الكرّة في دعوة الجانب الإسرائيلي إلى قبول الحل الودي للصراع الأطول في تاريخ البشرية والالتزام بأحكام القانون الدولي في علاقته مع الشعب الفلسطيني.
ومن الموضوعات البارزة التي لم يغفلها الخطاب الملكي تأكيد الأردن على وصايته الهاشمية على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس، وهي وصاية تستند إلى اتفاقية رسمية أبرمت مع دولة فلسطين عام 2013 وتحظى باعتراف دولي. فالعبث بالوضع الراهن القانوني والتاريخي للمدينة المقدسة يُعد خرقًا للقرارات الأممية التي تخص مدينة القدس بوضع تاريخي خاص يجب عدم المساس به أو تغييره، ويمثل تهديدًا مباشرًا للسلم والأمن الدوليين وفق أحكام المادة (39) من ميثاق الأمم المتحدة، خاصة مع خطابات التحريض التي قد تشعل حربًا دينية عابرة للحدود.
ومن نقاط القوة أن الخطاب الملكي لم ينفصل عن المصلحة الوطنية الأردنية. فقد شدد الملك على أن الأردن لن يقبل أن يكون بديلاً للوطن الفلسطيني، وهو موقف يجد سنده في مبدأ حق الشعوب في تقرير المصير المنصوص عليه في المادة (1) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية. فالتهجير نحو الأردن لا يمثل فقط انتهاكًا لحق الفلسطينيين في البقاء على أرضهم، بل يشكل تهديدًا مباشرًا لسيادة دولة عضو في الأمم المتحدة. هذا الربط بين القانون الدولي والأمن القومي الأردني منح الخطاب بعدًا إضافيًا يجعله ليس مجرد دفاع عن فلسطين بل عن استقرار الأردن ذاته.
إن خطاب الملك يرقى إلى مرتبة الوثائق المرجعية في الدفاع عن القانون الدولي، إذ جمع بين النصوص التأسيسية لميثاق الأمم المتحدة، وأحكام اتفاقيات جنيف، وقرارات مجلس الأمن، وآراء محكمة العدل الدولية. واستند إليها في بناء حجج متكاملة تصلح لتوجيه الاتهامات وتوصيف الجرائم، فضلًا عن تحديد النصوص القانونية القابلة لأن تكون أساسًا لتحميل المسؤولية الدولية.