أبو رمان يكتب : "عملية الجسر" مرآة للتحوّلات الإقليمية
محمد أبو رمان
تحتاج عملية جسر الملك الحسين، التي نفّذها الأردني عبد المطلب القيسي، وأدّت إلى استشهاده ومقتل جنديين إسرائيليين، إلى قراءة أعمق من مجرّد توصيفها حادثةً فرديةً عابرة. صحيحٌ أننا لا نملك بعد صورة واضحة عن خلفية القيسي الفكرية أو السياسية، ولكن من خلال مؤشّرات أولية، يبدو أنه لم يكن منتمياً إلى حزب أو جماعة منظَّمة، وأنّ العملية أقرب إلى الفعل الفردي الذي تحرّكه مشاعر الغضب والصدمة الإنسانية مما يجري من إبادة جهاراً نهاراً في غزّة.
في الوقت نفسه، من الخطأ فهم هذه العملية وكأنّها معزولة عن سياقات اللحظة التاريخية والسياسية المأزومة الراهنة، فنحن أمام سلسلة من الأحداث المترابطة في الأردن: من محاولة شابّين من جماعة الإخوان المسلمين النزول إلى الميدان، إلى قضية ماهر الجازي، إلى ملفات تصنيع أسلحة وتهريب مرتبطة بمتعاطفين مع حركة حماس، إلى اعتقالات في صفوف التيار السلفي الجهادي، وصولاً إلى خلايا لا ترتبط مباشرة بداعش أو بالإخوان؛ فهذا كله يعكس حالة متراكمة من الغضب الشعبي والاحتقان، اتسعت قاعدته الاجتماعية، ولم تعد مرتبطة بشريحة أو فئة بعينها. ويلفت النظر أيضاً أنّ هذه الحالات لا تقتصر على الشباب، بل تشمل أعماراً ومستويات اقتصادية وتعليمية مختلفة. نحن، إذن، أمام مزاج عام متصاعد يتجاوز الحواجز التقليدية بين الطبقات والأجيال والمناطق.
رد الفعل الإسرائيلي على عملية القيسي يترجم هو الآخر التحوّلات والتطورات السياسية؛ فوزارة الخارجية في تل أبيب سارعت، في بيان مقتضب بعد العملية، إلى التلميح إلى ربطها بما وصفته خطاب التحريض (المقصود ضمناً خطاب الأردن الدبلوماسي الذي يصعّد بوضوح مع إسرائيل منذ الحرب على غزّة)؛ ويتوازى ذلك ويتزامن مع مسار أوسع في الإعلام والسياسة الإسرائيلية، وخصوصاً في الأوساط اليمينية والصهيونية المسيحية، يستهدف الأردن كما يستهدف قطر (في تبرير للضربة الصاروخية الإسرائيلية) وتركيا؛ ما يعكس حالة من التوتر بين إسرائيل والأردن وقطر وتركيا بدرجةٍ عاليةٍ أخيراً.
عندما نضع ذلك كله في سياقه الإقليمي، تتضح الصورة أكثر. إدارة ترامب، بتصريحات الرئيس نفسه في لندن، وبمواقف وزير خارجيته مايك روبيو وزياراته الرمزية لحائط المبكى، لا تُظهر أي تغيير في الموقف الأميركي التقليدي المنحاز لإسرائيل، بل العكس: ما نراه ضوء أخضر لنتنياهو كي يواصل سياسات التهجير والإبادة في غزّة، وضم الضفة الغربية، وربما إلغاء السلطة الفلسطينية. رغم ما يُشاع في الإعلام من خلافاتٍ بين ترامب ونتنياهو، تشير الوقائع إلى تفاهم عميق. هذه السياسات الأميركية والإسرائيلية تغذّي مشاعر الغضب في المنطقة، وتراكم الاحتقان ليس ضد إسرائيل وحدها، بل ضد أميركا أيضاً، ومعها الحكومات العربية العاجزة عن مواجهة هذه اللحظة التاريخية.
في المقابل، بدأت تظهر بعض التحركات العربية والإسلامية التي تحمل إشارات مهمة. التقارب الأردني – القطري مثلاً، أو الاتفاقية الدفاعية بين السعودية وباكستان بعد ضربة قطر، أو تراشق الخطابات بين نتنياهو وأردوغان، كلها خطوات أولية في اتجاه بناء تحالف إقليمي يواجه السياسات الإسرائيلية. لكن هذه الخطوات لا تزال متفرّقة، وتحتاج أن تتبلور في صيغة أوضح وأكثر تنسيقاً، نحو خطاب سياسي واحد، ضاغط على إدارة ترامب، يرفع الكلفة السياسية والاقتصادية لاستمرار الدعم الأميركي غير المشروط لإسرائيل. فالوحيد القادر على كبح نتنياهو هو ترامب نفسه، ولن يفعل ذلك ما لم يشعر أن مصالح بلاده مهددة بصورة جدية.
ليست عملية جسر الملك الحسين، إذن، مجرّد فعل فردي، ولا يمكن أن تُختزل في إطار عشائري أو انفعالي ضيّق. هي مرآة تعكس المزاج الشعبي، ونتاج لحظة سياسية إقليمية خطيرة، ومؤشّر على ما قد يحدث إذا استمرّ الانسداد الرسمي العربي أمام مشهد الإبادة في غزّة. التحدي الحقيقي يكمن في تحويل هذا الغضب إلى قوة سياسية منظّمة، عبر بناء تحالفات إقليمية، وصياغة خطاب عربي مشترك، ورفع كلفة السياسات الأميركية – الإسرائيلية، بدل ترك الأمور تتدحرج نحو سيناريوهات أكثر قسوة وتهديداً للاستقرار الداخلي.