أبو رمان يكتب: "الاعتدال" حين يؤول إلى "ممانعة"

 

محمد أبو رمان

صرّح رئيس مجلس الوزراء ووزير الخارجية القطري الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، في مقابلة مع "سي أن أن"، إن العدوان الإسرائيلي على الدوحة، ومحاولة اغتيال قيادات من حركة حماس فيها، سيكون محوراً للنقاش في قمّة عربية وإسلامية مرتقبة (اليوم الأحد وغداً الاثنين)، مشدّداً على أن الرد الإقليمي ضروري لردع هذا النمط من السلوك.

ولا يمكن التعامل مع هذا التصريح بوصفه مجرّد رد فعل سياسي على حادثة محدودة، بل هو مؤشّرٌ على حالة القلق والصدمة الخليجية والعربية عموماً من التمادي الإسرائيلي. ومن الرسائل التي يحملها هذا السلوك أن الأمر لا يتعلق فقط بتصفية قادة فلسطينيين أو بإضعاف حركة حماس، بل هو جزءٌ من تحوّلات إقليمية واسعة بعد حرب الإبادة على غزّة، وتمسّ مباشرةً سيادة دول، مثل سورية ولبنان، وتشير إلى انتقال إسرائيل نحو نهج جديد أكثر خطورة يهدّد الأمن الإقليمي، بل ربما الاستقرار العالمي.

الخطير في المشهد أنّ هذا الشعور الإسرائيلي بالتفوق لا يأتي من فراغ، بل يرتبط بالانهيار السريع لما كان يُعرف بمحور الممانعة بقيادة إيران، المحور الذي لعب طوال العقدين الماضيين دوراً مركزياً في إنتاج حالة من الاستقطاب الحادّ بين معسكري "الممانعة” والاعتدال العربي”. وكانت إسرائيل، في نظر بعض العواصم الإقليمية، أقرب إلى محور الاعتدال العربي (مقارنةً أيضاً بمحور إقليمي آخر من تركيا وقطر خلال تلك المرحلة من الربيع العربي)، وهو السياق الذي ولّد "الاتفاقيات الإبراهيمية"؛ التي قامت على إعادة تعريف موازين القوى في المنطقة، وإدماج إسرائيل في البنية الإقليمية أمراً واقعاً، بوصفها لا تشكّل، حينذاك، تهديداً للأمن الخليجي، كما هي حال إيران التي كان يُنظر إليها مصدر تهديد رئيس لأمن الخليج من دولٍ عديدة، غير أنّ الضربة الإسرائيلية لقطر مسمارٌ آخر في نعش صلاحية هذه المعادلة، فمحور الممانعة تراجع، وفي المقابل، لم تستطع إسرائيل استثمار هذا الانكفاء إلا بالتمادي في العدوان والاغتيالات وتجاوز كل الخطوط الحمراء، ما يدفع محور الاعتدال العربي أمام مسؤولية مراجعة حساباته، والبحث عن إعادة بناء موازين قوى جديدة في المنطقة، وبناء مفهوم الردع، وهذه المرّة في مواجهة التغول الإسرائيلي، وربما التفكير في صياغة "محور ممانعة مختلف"؛ يقوم على شراكات أوسع مع تركيا وأوروبا، وعلى خطاب ردعي أكثر وضوحاً تجاه إسرائيل.

لا ينفصل هذا التحول عن إدراك عواصم الاعتدال العربي أن استمرار الرهان على مظلة الحماية الأميركية وحدَها بات محفوفاً بالمخاطر. تبدو إدارة الرئيس ترامب أسيرة لاعتبارات انتخابية داخلية، ودعمها اللامشروط نتنياهو يفاقم من عزلة الولايات المتحدة عالمياً، ويضرّ بمصالحها الاستراتيجية في المنطقة والعالم. ومن ثم، قد يصبح الضغط على واشنطن من خلال بناء جبهة إقليمية قادرة على إظهار الكلفة الكبيرة لدعم السياسات الإسرائيلية خياراً استراتيجياً لا مفرّ منه، خصوصاً مع تزايد التغيرات في الرأي العام الأميركي والغربي تجاه إسرائيل، وهو تحوّل لم يعد يقتصر على صورة إسرائيل فحسب، بل ينعكس مباشرة على صورة الولايات المتحدة نفسها.

في المقابل، سيؤدّي التردّد العربي في مواجهة هذه التحولات، أو الاكتفاء ببيانات الشجب والإدانة، إلى تضخيم حجم الكلفة الاستراتيجية والسياسية لعدم القدرة على مواجهة إسرائيل؛ فالوقائع على الأرض تشير إلى أنّ حكومة اليمين المتطرّف في تل أبيب تسعى إلى استغلال هذه اللحظة التاريخية لإعادة رسم الخريطة الإقليمية وفق مقاساتها الخاصة، وفتح ملفّ التهجير من جديد، وهو ما يجعل كل هذه الملفات مترابطةً في سياق واحد.

تتمثل النتيجة الأخرى المهمة، والرئيسية للضربة الإسرائيلية، بإعادة صياغة معادلة الأمن الخليجي مرّة أخرى وربطها بالشرق الأوسط وما يحدُث في فلسطين بصورة رئيسية، وهو موضوعٌ كان مثار نقاش واسع داخل أوساط سياسية خليجية عديدة في الفترة الماضية، إلّا أنّ الصعود الإسرائيلي الجديد وما يحدث في سورية وغزّة والضفة الغربية والضربة لقطر ودور السعودية الإقليمي المتنامي؛ ذلك كلّه يفرض إعادة توسيع المجال الاستراتيجي للأمن الخليجي مرّة أخرى لتكون سياسات الشرق الأوسط جزءاً أساسياً منه.