قراءة في مأزق التحول الرقمي للأردن
قال خبير الأمن السيبرانيّ وصفي الصفدي إن الهدف الأسمى لعملية الرقمنة لا ينبغي أن يختزل في نقل الإجراءات من صورتها اليدوية إلى الصيغة الإلكترونية، وإنما يتمثل في توظيف التكنولوجيا كأداة استراتيجية تُسخّر لخدمة الإنسان وتعزيز جودة الحياة وتطوير أنماط العيش، في إطار رؤية حضارية شاملة تعيد صياغة العلاقة بين المواطن والدولة.
وأوضح الصفدي في تصريحٍ خاص لصحيفة "أخبار الأردن" الإلكترونية أن الأردن، وإن كان قد قطع خطوات ملموسة على طريق التحول الرقمي، ما يزال متأخرًا نسبيًا عن الدول الرائدة التي نجحت في بناء نماذج متكاملة، الأمر الذي يضعه أمام تحديات بنيوية وإدارية وثقافية تتطلب إرادة سياسية صلبة ووعيًا مجتمعيًا ناضجًا.
وبيّن الصفدي أن التجربة الأردنية حتى اللحظة الراهنة تعكس مزيجًا معقدًا من التقدم الملحوظ من جهة، والتعثرات المركبة من جهة أخرى، فمن جانب، أُطلقت الاستراتيجية الوطنية للتحول الرقمي (2021-2025) التي وضعت أسسًا لتطوير البنية التحتية وتعزيز الاقتصاد الرقمي وتوسيع نطاق الخدمات الحكومية الإلكترونية، ومنصة "سند" مثلت تجربة ناجحة نسبيًا في هذا السياق، إذ وفرت هوية رقمية موحدة وأتاحت للمواطنين الوصول إلى أكثر من 400 خدمة إلكترونية، فضلًا عن دمجها مع عدد من البنوك لتسهيل المعاملات المصرفية، في الوقت ذاته الذي تشهد فيه البنية التحتية خطوات متسارعة نحو توسيع شبكات النطاق العريض وإدخال تقنيات الجيل الخامس.
ونوّه إلى أن هذه الإنجازات، لم تُخفِ ما يواجه المسار من تحديات جمّة، أبرزها استمرار هيمنة البيروقراطية ومقاومة التغيير داخل بعض المؤسسات، ما يجعل الرقمنة في نظر البعض مجرد "مشروع مفروض" لا ينطلق من حاجات المواطن الفعلية، مشيرًا إلى أن جوهر الأزمة يكمن في غياب مركزية المواطن في تصميم الخدمات، حيث تُفرض أحيانًا حلول تقنية لا تعكس فهمًا حقيقيًا لاحتياجات المستخدمين، الأمر الذي يؤدي إلى ضعف الجدوى أو تعقيد الاستخدام، كما يظهر في تجربة بعض الفئات الهشة؛ فالمسن الذي يجد نفسه عاجزًا عن حجز موعد طبي عبر منصة معقدة يُضطر في نهاية المطاف إلى اللجوء للوسائل التقليدية، وهو ما ينسف فلسفة التحول الرقمي من أساسها.
ولفت الانتباه إلى أن الفجوة الرقمية ما تزال قائمة بين الحضر والأطراف، حيث تعاني بعض المناطق الريفية من غياب البنية التحتية المناسبة، فضلًا عن ضعف المهارات الرقمية لشريحة واسعة من المجتمع، مردفًا أن هذه التحديات تتضاعف مع تصاعد المخاطر السيبرانية، إذ بات تعزيز الأمن السيبراني وحماية البيانات الحساسة أمرًا وجوديًا في ظل ازدياد الاعتماد على التكنولوجيا، بينما يظل الشمول الرقمي والمالي ركيزة لم تتحقق بعد بالدرجة المطلوبة.
واستطرد الصفدي أن القطاعات الرئيسة في الأردن قدّمت نماذج واعدة، لكنها لم تصل بعد إلى مرحلة التكامل، ففي القطاع الحكومي، جرى أتمتة العديد من الخدمات التي سهلت على المواطن معاملات كانت تستنزف وقتًا وجهدًا. وفي القطاع الصحي، أطلقت منصة "حكيم" لربط السجلات الطبية، ما أتاح للطبيب الاطلاع على التاريخ الطبي للمريض بسهولة، إلى جانب منصة "صحتي" لحجز المواعيد، أما القطاع المالي، فقد شهد طفرة لافتة في الدفع الإلكتروني والمحافظ الرقمية مثل "زين كاش" و"كليك"، إلى جانب التوسع الكبير في التطبيقات المصرفية الذكية.
وفي السياق العالمي، لفت إلى أن مؤشرات الأداء تكشف عن تقدم نسبي للأردن، إذ ارتقى إلى المرتبة التاسعة والثمانين عالميًا في مؤشر الأمم المتحدة للحكومة الإلكترونية لعام 2024 بعد أن كان في المرتبة المئة عام 2022، كما تقدم إلى المرتبة الخامسة والخمسين في مؤشر جاهزية الذكاء الاصطناعي الحكومي الصادر عن "أوكسفورد إنسايتس"، واحتل المرتبة الثامنة والستين في مؤشر جاهزية الشبكة لعام 2023. ورغم ذلك، فإن هذه الأرقام، بحسب المحللين، تظل دون مستوى الطموحات إذا ما قورنت بتجارب رائدة كإستونيا أو الإمارات العربية المتحدة.
وفي هذا الإطار، أشار إلى أن تجربة إستونيا تمثل أنموذجًا متكاملًا للحكومة الإلكترونية، إذ بات المواطن قادرًا على التصويت عبر الإنترنت، وتوقيع المستندات رقميًا، وتأسيس شركة خلال دقائق معدودة، في حين تقدم الإمارات مثالًا آخر على التحول الاستراتيجي الذي حقق وفورات مالية هائلة تجاوزت مئات المليارات من الدراهم، وأطلقت خطة طموحة لدمج الذكاء الاصطناعي في كل الخدمات الحكومية بحلول عام 2031.
وتابع الصفدي أن نجاح الأردن في هذا المضمار يتطلب توافر ثلاث ركائز أساسية مترابطة، أولها إدارة تغيير فعالة تُقنع الأفراد والمؤسسات بجدوى الرقمنة وتُقدّم التدريب والدعم اللازمين، وثانيها جعل المواطن مركز العملية الرقمية عبر حلول تنطلق من احتياجاته وتجارب استخدامه، وثالثها الاستثمار الجاد في تنمية المهارات الرقمية لجميع فئات المجتمع لضمان شمولية التحول وعدم اقتصاره على فئات محددة.