أبو رمان يكتب: حين يصبح الوقت سلاح نتنياهو
محمد أبو رمان
من يتأمل المشهد الراهن يلحظ أن ورقة الوقت تحولت إلى السلاح الأشد خطورة في يد نتنياهو وحكومته. فما يُنشر من تسريبات في الأيام الأخيرة عن مبادرة جديدة يقودها المبعوث الأميركي ستيف ويتكوف لا يخرج في جوهره عن المقترحات القطرية السابقة. الحديث يدور عن صفقة شاملة تقوم على إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين المتبقين في غزة مقابل وقف لإطلاق النار، لكن إسرائيل تستغل عامل الوقت لإرهاق الأطراف الأخرى وإفراغ أي صفقة من محتواها.
نتنياهو يضع شروطاً صارمة: إطلاق سراح جميع الأسرى بلا استثناء، ونزع سلاح حماس والمقاومة بصورة نهائية، وتشكيل حكم مدني جديد في غزة لا مكان فيه لا لحماس ولا للسلطة الفلسطينية، مع الإبقاء على السيطرة الأمنية الإسرائيلية الكاملة. هذه ليست تسوية ولا حتى صفقة متبادلة، بل إعلان استسلام صريح يدفن خيار المقاومة الفلسطينية إلى الأبد، ويقوّض أفق الدولة الفلسطينية. وفي خلفية هذا المشهد، يُستخدم الوقت لإجبار الجميع على التسليم بما يبدو اليوم مستحيلاً لكنه قد يصبح مع مرور الزمن واقعاً مفروضاً..
وفي الضفة الغربية، يجري المشهد بصورة أكثر وضوحاً. تفكيك السلطة الفلسطينية مسألة وقت، ولم يعد السؤال هل ستنهار السلطة، بل متى ستنهار؟ الزمن هنا لا يعمل لصالح الفلسطينيين، بل يُستخدم لإلغاء فكرة الدولة الفلسطينية من أساسها. مع كل يوم يمر، يتمدد الاستيطان أكثر، وتتقوض المؤسسات الفلسطينية، وتتعزز السيطرة الأمنية الإسرائيلية. هذا التآكل البطيء، المقصود والمبرمج، هو السلاح الأكثر فاعلية في يد المشروع الإسرائيلي. ليس بالضرورة أن يأتي الحسم دفعة واحدة، بل عبر تقطيع أوصال المشروع الوطني الفلسطيني يوماً بعد يوم حتى يصبح الحديث عن دولة مجرد وهم.
الولايات المتحدة في عهد ترامب توفر الغطاء لهذا النهج. فمنذ البداية منح ترامب نتنياهو ضوءاً أخضر للتمدد والضم في الضفة الغربية. أما وزير خارجيته ماركو روبيو فقد هدّد علناً بأن أي اعتراف أوروبي بالدولة الفلسطينية سيقابله ضم إسرائيلي مباشر للضفة. في غزة، لم يتراجع ترامب عن فكرة تحويل القطاع إلى مستعمرة أميركية، بل أعاد إلى الواجهة جاريد كوشنير وتوني بلير لبحث ترتيبات «اليوم التالي»، في رسالة واضحة أن المبادرة العربية لمستقبل غزة ليست مطروحة على الطاولة أصلاً. وتماماً كما تفعل إسرائيل، يستثمر ترامب الوقت بمهارة؛ يطلق الوعود، يراوغ في التصريحات، يرسل رسائل دخانية تشتت الانتباه وتغطي على النوايا الحقيقية. في النهاية، كل يوم إضافي يسمح لإسرائيل بتعزيز موقعها، فيما العرب يراوحون مكانهم في الانتظار.
الأردن بدوره لا يقف خارج هذه المعادلة. على العكس، فإنّ مصالحه التاريخية والاستراتيجية باتت اليوم في مواجهة مباشرة مع الأجندة الإسرائيلية. ربما لم تصل هذه الأجندة في أي وقت مضى إلى هذا المستوى من التصادم مع المصالح الأردنية كما هو الحال الآن. لكن إدراك الخطر لا يكفي وحده. ولا يمكن أن يكون الرد بخطابات نارية أو بمنطق «الفزعة»، أو اختلاق معارك داخلية تؤثر سلباً على المعادلة الداخلية وتشتت الجهود والأفكار ولا تخدم إلا المشروع الإسرائيلي.
أخطر ما يواجهنا اليوم هو أن الزمن يعمل لصالح المشروع الإسرائيلي، بينما نقف نحن على الهامش. نتنياهو يعرف أن الوقت يضاعف مكاسبه ويقربه من تحقيق أهدافه الاستراتيجية. لكن هذه الورقة نفسها يمكن أن تتحول إلى سلاح مضاد إن أحسنا إدارتها. الزمن ليس قدراً محتوماً ولا قوة مطلقة. هو أداة، ومن يحسن استخدامها يستطيع أن يغيّر المسار.
المعركة اليوم ليست على الأرض فقط، بل على الزمن أيضاً؛ ومن لا يُحسن إدارة وقته سيجد نفسه في نهاية المطاف جزءاً من حسابات الآخرين لا صانعاً لها.