أبو رمان يكتب: ثرواتنا المهدرة: الهوية، الثقافة والقوة الناعمة

 محمد أبو رمان

ليست السياحة نشاطاً ترفيهياً أو قطاعاً ثانوياً في الاقتصاد الوطني، بل هي في كثير من الدول صناعة استراتيجية متكاملة، ربطت بين الثقافة والتاريخ والاقتصاد، وتحولت إلى رافعة حقيقية للناتج المحلي الإجمالي وصورة الدولة ومكانتها. إذا نظرنا إلى الأردن اليوم، فإن ما يمتلكه من ثراء تاريخي وثقافي وديني وجغرافي يجعله مرشحاً لأن يكون مركزاً إقليمياً للسياحة بمختلف أنواعها، لكن التحدي هو كيف ننتقل من مرحلة الاستثمار التقليدي المحدود إلى بناء صناعة متقدمة، قادرة على تحويل الهوية الثقافية والتراث إلى قيمة اقتصادية مستدامة.

الدول التي نجحت في هذا المجال لم تكتفِ بالترويج لمواقعها الأثرية، بل صنعت حولها سرديات ثقافية وتجارب متكاملة. براغ، على سبيل المثال، لم تعد مجرد مدينة جميلة، بل وجهة ثقافية عالمية تستثمر في فنونها وتاريخها، وروما لم تبقَ عاصمة آثار، بل نموذجاً لإدارة السياحة الدينية والثقافية عبر شبكات من الخدمات والصناعات الإبداعية. حتى المدن الصغيرة في أوروبا وأميركا اللاتينية باتت تروّج نفسها من خلال مهرجانات سنوية، وأسواق تراثية، ومسارات سياحية تقدم تجربة غامرة للزوار، تجمع بين التاريخ والموسيقى والسينما والفنون التشكيلية.

في الأردن، ثمة محاولات محلية مهمة لكنها جزئية. في السلط، نرى شارع الستين بمقاهيه ومطاعمه المطلة على فلسطين، وفي الفحيص مهرجانات تمزج بين الهوية المسيحية العربية والبعد الثقافي، وفي عجلون مشاريع البيوت الإنتاجية، وفي الكرك مبادرة «جارة القلعة» لربط الآثار بالحركة الاقتصادية. لكن هذه الجهود، على أهميتها، لم ترتقِ بعد إلى مستوى رؤية وطنية شاملة، توظّف هذه الثروات في صناعة متكاملة، تستهدف أسواقاً جديدة وتخلق رواية أردنية عالمية عن الهوية والثقافة.

ورقة السياسات الأخيرة لمعهد السياسة والمجتمع، بالتعاون مع مركز الدراسات الاستراتيجية، تناولت هذا التحدي من خلال دراسة واقع السياحة في البترا، وطرحت أفكاراً جريئة حول إعادة النظر في استراتيجيات التسويق، وأسواق السياحة المستهدفة، وأنماط التفاعل مع السياح. وقدّم رئيس مجلس مفوضية البتراء، فارس بريزات، خلال ورشة العمل، تشخيصاً عميقاً لمشكلات السياحة التقليدية التي لا تزال تعتمد على نماذج قديمة في التعامل مع الموقع الأكثر شهرة في الأردن. هذه الطروحات يجب أن تكون بداية لثورة فكرية في إدارة السياحة، لا مجرد توصيات تقنية محدودة.

النموذج المطلوب يتجاوز الحدود الجغرافية للمواقع السياحية، ليخلق هوية متمايزة لكل مدينة أردنية، والسياحة الدينية في الأردن تمثل ثروة كبرى لكنها لم تحظَ بالاستثمار الكافي. فالمغطس وجبل نيبو ومكاور ومخطوطات البحر الميت ومقامات الصحابة والانبياء يمكن أن تشكّل منظومة عالمية للحج المسيحي والإسلامي، عبر تطوير شبكات خدمات سياحية متقدمة، وتقديم روايات تاريخية مدعومة بالأبحاث الأكاديمية والتقنيات الحديثة. هذا يتطلب شراكة بين القطاعين العام والخاص، والاستثمار في التكنولوجيا التفاعلية (VR/AR) التي تمكّن الزائر من تجربة تاريخية متكاملة، كما يحدث في مواقع سياحية كبرى في العالم.

أما السياحة العلاجية، فهي قطاع استراتيجي لم يُستثمر بعد بالشكل الأمثل. البحر الميت، بخصائصه العلاجية الفريدة، والحمّات المعدنية، والبنية التحتية الطبية المتقدمة في المستشفيات الأردنية، كلها فرص لصناعة علاجية سياحية متطورة، تربط بين العلاج والاستجمام والرفاهية. يمكن للأردن أن يطوّر مراكز عالمية للسياحة العلاجية، بما يعزز مكانته كوجهة إقليمية ودولية، إذا ما توفرت رؤية استثمارية شاملة وخطط تسويقية طويلة المدى.

إن التفكير بالسياحة كنفط الأردن الحقيقي يستدعي تجاوز النظرة التقليدية والتركيز على التكامل بين الثقافة والاقتصاد. المطلوب شبكة من المشاريع التي تربط بين المؤتمرات والمعارض الفنية والأسواق التراثية، وبين المنتجعات العلاجية والمواقع الأثرية. هذا يعني أن الهوية الوطنية الأردنية يجب أن تتحول إلى علامة تجارية عالمية، تُبنى على سردية تاريخية وثقافية متينة، تدمج كل مدينة في لوحة وطنية متكاملة، وتحوّل الأردن إلى وجهة ثقافية سياحية منافسة.

المرحلة المقبلة تتطلب رؤية وطنية جريئة، ومشروعاً استراتيجياً يعيد تعريف علاقة الأردنيين بتراثهم، ويحوّل هذا الإرث إلى قوة اقتصادية وثقافية. ما يملكه الأردن من تنوع طبيعي وديني وثقافي يستحق تخطيطاً احترافياً بعيد المدى، يدمج بين الهوية والسياحة والصناعة الإبداعية، ويمنح المملكة المكانة التي تليق بتاريخها ودورها في المنطقة.