ابورمان يكتب : هل يولد الفلسطيني من جديد؟

 محمد أبو رمان

تتجاوز خطورة اللحظة الراهنة على المشروع الفلسطيني مسألة الجمود السياسي أو انسداد الأفق السياسي، بل في التوحش غير المسبوق لليمين الإسرائيلي الذي بلغ مرحلة متطرّفة تسعى إلى ما هو أبعد من إسقاط فكرة الدولة الفلسطينية؛ إذ يعمل نتنياهو وفريقه على تفكيك جوهر القضية نفسها، وإنهاء مفهوم الشعب الفلسطيني كياناً سياسيّاً جامعاً.

المخيمات، وحق العودة، و"أونروا"، والهوية الوطنية للاجئين في الخارج، كلها عناصر تُستهدف اليوم بصورة منهجية. أما على الأرض، فتسير المخطّطات باتجاه تحويل الفلسطينيين إلى مجرّد مجاميع محلية بلا قيادة وطنية أو سياسية، عبر بدائل محلية تُصنع على المقاس. وبموازاة ذلك، يواصل الاستيطان والتهويد ومشروع E1 في إعادة رسم الجغرافيا والقدس الكبرى، بما يجعل هذا السيناريو الاحتمال الوحيد في نظر اليمين الإسرائيلي.

لا تُختزل القصة اليوم في "فتح" أو "حماس"، ولا حتى في جدل إصلاح السلطة الوطنية كما يطرح أوروبيّاً وعربيّاً، فلم يعد مقبولاً اليوم أي مشروع وطني فلسطيني في نظر اليمين الإسرائيلي المهيمن، لا "حماس" ولا "فتح" ولا حتى إعادة هيكلة السلطة. وفي اللحظة التي يعلن فيها نتنياهو ضم أجزاء من الضفة الغربية، وهو أمر يجري تطبيقه فعليّاً على الأرض، لن يبقى أي أساس سياسي صلب للسلطة الفلسطينية، وسيتحوّل وجودها إلى هيكل عظمي، بلا أي معنى أو قيمة، وهو أمرٌ بدأ ينفذه نتنياهو على الأرض بتسارعٍ ملحوظ.

ذلك كلّه في بيئة إقليمية أكثر خطورة من أي وقت مضى، فالعرب في حالة غيبوبة استراتيجية كاملة، وإسرائيل تتمدّد إقليميّاً في الجوار، وتعيد تعريف علاقاتها مع محيطها من موقع قوة وهيمنة. وعلى المستوى الدولي، جاءت إدارة ترامب لتمنح الضوء الأخضر لليمين الإسرائيلي، عبر مواقفها المنحازة وصياغة معادلة جديدة تطيح الثوابت التقليدية في الصراع، وتجعل من الاستيطان والضم والتصفية خطوات مشروعة ومعلنة.

أمام هذه البيئة القاتمة، يطلّ السؤال الكبير والتاريخي: ما العمل؟. ... إذا تجاوزنا المشهد الفرعي، نجد أن مشروعين رئيسين شكّلا عقوداً معالم السياسة الفلسطينية: يتمثل الأول بحركة فتح التي حملت البعد الوطني النضالي التاريخي، لكنها راهنت في العقود الأخيرة على خيار التسوية السلمية، وعلى المجتمع الدولي والدعم العربي ومعسكر الاعتدال العربي. والثاني مشروع الإسلام السياسي، ممثلاً بحركة حماس ومنظومتها الكفاحية، التي اختارت طريق المقاومة المسلحة، وتحالفت مع معسكر الممانعة الإقليمي. لكن النتيجة اليوم أن كلا المشروعين وصل إلى طريق مسدود. ليس لأن الخيارات كانت بالضرورة خاطئة في جوهرها، بل لأن السياق التاريخي وموازين القوى الداخلية والخارجية صارت تعمل في الاتجاه المعاكس تماماً. والنتيجة أن الضفة الغربية وغزّة على السواء تعيشان انسداد الأفق نفسه، وإن اختلفت الرهانات والمسارات.

إذاً، البقاء في إطار الرهانات الحالية والقائمة إهدار واستنزاف آخر للمشروع الفلسطيني وهدية كبيرة وتاريخية تقدّم لنتنياهو ومشروع التصفية الذي يعمل عليه.

من هنا، تستدعي اللحظة الراهنة مشروع إنقاذ فلسطيني وتدشين مرحلة تتجاوز هذه الصراعات الداخلية غير ذات الجدوى، ووقف تبادل اللوم بين الفصائل، والتفكير بعمق في طبيعة الخطر الوجودي الداهم. المطلوب إعادة تعريف النضالية الوطنية الفلسطينية في ضوء التحولات العميقة في موازين القوى والسياقات المحيطة. ليس الحديث عن إصلاحات شكلية أو إعادة تدوير مؤسّسات فقدت معناها، بل عن مشروع وطني جريء يعيد بناء الفكرة الفلسطينية على أسسٍ جديدة: مشروع يتجاوز الهيكلية الحالية لمنظمة التحرير التي تحوّلت إلى إرث سياسي متكلّس، ولا فائدة من محاولة إحيائها أو تجديدها، فالأفضل البدء بمشروع جديد بالكلية يعيد ترصيص الصفوف، ويستنهض طاقات الشباب الفلسطيني الذي دفع ثمن الإحباط وخيبات الأمل وإفلاس النخب السياسية.

هذا الجيل اليوم من أكثر أجيال المنطقة والعالم علماً وتسييساً، وهو القادر، إذا ما توفرت الرؤية والقيادة، على صياغة مشروع يواجه خطورة اللحظة، ويعيد الاعتبار للقضية الفلسطينية بوصفها قضية تحرّر وطني، وليست مجرد نزاع إداري على الأرض والسلطة، فهل يمكن أن يولد هذا المشروع الفلسطيني الجديد القادر على تحويل الخطر إلى فرصة، والانسداد إلى أفق؟ أم أن الفلسطينيين سيبقون أسرى الحلقة المفرغة الحالية، تاركين المجال مفتوحاً أمام نتنياهو ومن بعده ليكمل مشروعه التاريخي؟