العتوم يكتب : وزير الدفاع الإيراني يكشف مصانع الظل :رسائل عسكرية استخبارية من وراء الحدود
د.نبيل العتوم
في خطوة أثارت الانتباه، أعلن وزير الدفاع الإيراني عزيز نصير زاده أنّ بلاده أقامت مصانع سلاح وبنى تحتية عسكرية في بعض الدول، مكتفيًا بالتلميح من دون الكشف عن المواقع. هذا التصريح، الذي بدا للوهلة الأولى كجملة عابرة في مقابلة تلفزيونية محلية، حمل في طياته أكثر من رسالة: إلى الداخل الإيراني، إلى ماتبقى من الحلفاء في الإقليم، وإلى الخصوم في تل أبيب وواشنطن. فالغموض الذي رافق الإعلان ليس نقصًا في المعلومات بقدر ما هو جزء من استراتيجية الردع؛ إذ إن إبقاء المواقع مجهولة يجعل أيّ خطة لاستهدافها أكثر تكلفة وأصعب تنفيذًا.
ما أرادت طهران قوله يتجاوز مجرد امتلاك مصانع في الخارج. إنها محاولة لإعادة صياغة معادلة الصراع: لم يعد مركز الثقل العسكري الإيراني محصورًا داخل حدودها، بل بات موزعًا على أكثر من جبهة وأكثر من دولة. التجربة السابقة أظهرت أن الضربات الإسرائيلية المتكررة ضد قوافل السلاح أو المخازن في سوريا حققت نتائج ملموسة. أما اليوم، فإذا تحوّل الدعم الإيراني من شحنات عابرة إلى إنتاج محلي تحت حماية سياسية وأمنية للدول المضيفة، فإن الحسابات تصبح أكثر تعقيدًا، وتكلفة الضربات أرفع كلفة من الناحية الدبلوماسية.
ويتلاقى هذا البعد الصناعي مع الرسائل العسكرية المباشرة. نصير زاده حرص على القول إن الحرب الأخيرة مع إسرائيل اقتصرت على بعد جوي، وإن ما ظهر لم يكن سوى جزء من القدرات الحقيقية، مؤكدًا أن لدى بلاده صواريخ أكثر تدميرًا وأنظمة لم تُستخدم بعد. بهذا المعنى، فإن الجولة الماضية كانت مجرد "عرض جزئي"، أما الجولة المقبلة ــ إذا اندلعت ــ فقد تكشف قدرات جديدة في الصواريخ والمسيّرات وأنماط الهجوم. صحيح أن هذه الرسائل تهدف إلى رفع معنويات الداخل بعد الضربات التي أصابت مواقع حساسة، لكنها أيضًا تستند إلى مسار تطوير متواصل في الصناعات الصاروخية والدفاعية الإيرانية خلال السنوات الأخيرة.
التوقيت نفسه ليس بريئًا. فالإعلان يأتي بينما تعود أزمة الملف النووي إلى الواجهة، مع تهديدات أوروبية بتفعيل آلية العقوبات الأممية إذا لم تعد طهران إلى طاولة المفاوضات. هنا يصبح الربط واضحًا بين المسارين النووي والدفاعي: التشدد في الخطاب العسكري يهدف إلى رفع أوراق المساومة، وإظهار أن أي ضغوط إضافية في ملف قد تقابل بتشدد أكبر في الآخر. إنها لعبة موازنة دقيقة تحاول طهران من خلالها أن ترفع سقفها التفاوضي من دون أن تنزلق إلى مواجهة شاملة.
على مستوى الإقليم، فإن إعلان "المصانع الخارجية" يفتح الباب أمام سباق خفي. فمن جهة، قد تكثف إسرائيل ضرباتها الاستباقية لمنع تشكّل هذا الواقع الجديد، عبر عمليات دقيقة لا تُحرج الحكومات المضيفة بشكل علني. ومن جهة أخرى، قد تسعى إيران إلى إضفاء شرعية سياسية على تلك البنى عبر اتفاقات دفاعية أو ربطها بأنشطة مدنية واقتصادية، بما يجعل استهدافها أشبه باعتداء على سيادة دول ثالثة. وفي كلتا الحالتين، تنتقل المواجهة إلى مرحلة أشد حساسية: بين ضرب مشروع ناشئ أو السماح له بالنمو ليصبح أكثر صعوبة في الاحتواء.
مع ذلك، تبقى أمام إيران تحديات كبيرة. فإقامة خطوط إنتاج في الخارج يتطلب سلاسل توريد معقدة لمكوّنات عالية الحساسية، وهي سلاسل يمكن تعقبها عبر العقوبات والاستخبارات. كما أن بيئات الدول المضيفة ليست محصّنة أمنيًا، ما يجعل احتمال الاختراق والتسريب واردًا دائمًا. لذلك، يُرجَّح أن تلجأ طهران إلى أسلوب "التجميع النهائي" قرب جبهات المواجهة، مع إبقاء المكوّنات الأكثر حساسية داخل أراضيها، لتقليل المخاطر وتوزيع العبء في الوقت نفسه.
أما الرسائل الموجهة للولايات المتحدة، فكانت واضحة: الحرب الأخيرة اقتصرت على المجال الجوي، أما لو تمددت إلى البر أو البحر لظهرت قدرات أخرى، بينها أسلحة مضادة للملاحة. هذا التلميح ليس دعوة للتصعيد بقدر ما هو تحذير بأن أي توسع للصراع قد يستدرج الأميركيين مباشرة إلى ساحة الاشتباك. إيران هنا تريد تثبيت "توازن خوف"، يُبقي الجميع تحت سقف معين من الاشتباك، ويمنع الانزلاق إلى حرب مفتوحة لا يريدها أي طرف في هذه المرحلة.
في الداخل، يأتي الخطاب ليعيد بناء صورة الثقة. الإعلام الإيراني ركّز على أنّ الحرب الأخيرة كانت بمثابة "مختبر تعلّم"، وأنها دفعت الصناعة الدفاعية إلى تسريع خطوات التحديث. الحديث عن زيادة الدقة، واستخدام الذكاء الاصطناعي في المنظومات، ورفع حجم الإنتاج، يهدف إلى تأطير المرحلة الماضية كجزء من مسار تطويري طويل لا كصفحة خسارة أو تراجع.
في النهاية، تعلن طهران عبر هذه التصريحات أنّ معركتها لم تعد داخل حدودها فقط، وأن قدرتها على الردع أصبحت موزعة ومحمية بطرق أكثر تعقيدًا. خصومها، الرسالة أن ضربها لن يكون سهلًا أ بعد الآن. ولحلفائها، الوعد بأن شرايين التسليح لن تُخنق. أما لشعبها، فالقول إن ما جرى لم يكن نهاية القوة بل بداية فصل جديد من إعادة البناء والتحديث. وبين هذه الرسائل الثلاث، يظل الغموض هو السلاح الأهم: سلاح لا يُرى لكنه قد يكون الأشد تأثيرًا في حسابات الحرب والسلام.