الطورة يكتب: من ذاكرة الانضباط إلى عقد المواطنة الجديد: خدمة العلم كمرآة للتحول الأردني

 

[الكاتب: صفوت زيد الطورة]

حين أعلن ولي العهد الأمير الحسين بن عبدالله الثاني حفظه الله ورعاه، قبل أيام، قرب إعادة تفعيل برنامج خدمة العلم خلال لقائه شباباً في إربد، لم يُقرأ ذلك التصريح باعتباره مجرد إعلان رسمي، بل بدا كأنه نداء عميق يستحضر ذاكرة وطنية طويلة، ويؤشر إلى حاجة ملحة لإعادة بناء الجسور بين الأجيال والدولة. 
فالحديث عن خدمة العلم، في سياقه الجديد، يخرج من إطار التدبير الإداري ليغدو محاولة لصياغة مشروع جامع يعيد ترتيب العلاقة بين الفرد والمجتمع، وبين الماضي الذي نستلهمه والحاضر الذي نعيشه والمستقبل الذي نرتقبه.
وإذا ما استعدنا تاريخ هذه الخدمة، وجدنا أنها تأسست في منتصف السبعينيات لتعكس آنذاك معنى الانضباط والالتزام، قبل أن تتوقف في التسعينيات لأسباب اقتصادية واجتماعية، غير أن توقفها لم يمحُ حضورها من الذاكرة، إذ بقيت فكرة راسخة في المخيال الشعبي باعتبارها مدرسة للانتماء التي تمنح الشباب تجربة عملية في الانضباط والتعاون، وتجسيدا لفلسفة المواطنة الملتزمة. 
ومن هنا، فإن استعادتها اليوم لا تأتي استنساخاً للماضي، بل إعادة تعريف لها في ضوء التحولات المتسارعة التي يعيشها الشباب، وما يفرضه الواقع من تحديات اقتصادية وضغوط اجتماعية وتغيرات ثقافية.
ولعل ما يميز هذه العودة أنها تتجاوز البعد العسكري التقليدي لتضيف إليه بعداً اقتصادياً واجتماعياً أوثق اتصالاً بواقع الشباب. 
فالتدريب النظامي الذي يغرس قيم الانضباط يقترن اليوم ببرامج تأهيل مهني تصقل المهارات العملية وتفتح آفاقاً جديدة في سوق العمل، وبهذا المعنى تصبح الخدمة أكثر من مجرد فترة إلزامية؛ بل إنها استثمار في الإنسان، وإعادة تشكيل لمفهوم المسؤولية الفردية ضمن سياق جماعي يوازن بين متطلبات العمل وضرورات الانتماء.
وبهذا فإن انخراط الشباب في تجربة مشتركة، تجمعهم على اختلاف مناطقهم وخلفياتهم الاجتماعية، من شأنه أن يعيد إحياء قيم العيش المشترك التي أضعفتها الفردانية الحديثة، ويعيد الاعتبار لمفهوم التضامن الوطني الذي يحتاج إليه المجتمع في لحظات التحول، وبهذا تغدو الخدمة ليس فقط وسيلة لضبط الأفراد، بل أداة لترميم النسيج الاجتماعي، وتعزيز الثقة بين الدولة وأبنائها في مواجهة الضغوط التي قد تفتّ من عزائمهم.
وإذا كان البعد الاجتماعي والاقتصادي يحمل ثقله في التجربة الجديدة، فإن البعد الرمزي والسياسي لا يقل أهمية؛ إذ تمثل الخدمة إشارة إلى رغبة الدولة في تجديد عقدها مع الشباب، بحيث تتحول المواطنة من مجرد شعور عاطفي أو مطالبة بالحقوق، إلى فعل ملموس يترجم في صورة التزام مشترك، فالمسألة هنا ليست مجرد التزام قانوني ينتهي بانتهاء المدة، بل هي اختبار لقدرة الدولة على إقناع الشباب بأن هذه التجربة تمنحهم قيمة مضافة لحياتهم، وتجعلهم أكثر استعداداً لبناء مستقبلهم على أرضهم.
وليس من المبالغة القول إن عودة الخدمة تمثل إعلاناً بأن الهوية الوطنية بحاجة إلى تجديد، وأن الانتماء لم يعد يُبنى بالخطاب وحده، بل بالفعل الذي يجسّد المعنى. فهي في جوهرها، محاولة للإجابة عن سؤال يطرحه كل جيل: كيف يمكن أن نكون مواطنين فاعلين في زمن العولمة والتغيرات السريعة؟ والإجابة التي يقترحها هذا القرار ليست نظرية، بل عملية يعيشها الشباب على أرض الواقع، في معسكرات التدريب وفي ميادين العمل معاً.
ومن هنا، فإن نجاح هذه التجربة لن يُقاس بعدد المشاركين فقط، بل بمدى قدرتها على تحويل الواجب إلى قيمة، والالتزام إلى فضيلة، والانضباط إلى أسلوب حياة.
وبالتالي فإنها لحظة اختبار حقيقية، ليس للشباب وحدهم بل للدولة أيضاً: فكما أن الشباب مدعوون لإثبات قدرتهم على العطاء، فإن الدولة مطالبة بإثبات قدرتها على تحويل الخدمة إلى مدرسة وطنية متكاملة تُعيد إنتاج القيم الجامعة، وتمنح الأجيال الجديدة ثقة بأن الوطن مشروع مشترك لا ينفصل فيه الفرد عن الجماعة.

وفي المحصلة، فإن إعلان ولي العهد حفظه الله ورعاه عن قرب تفعيل خدمة العلم ليس عودة إلى الوراء بقدر ما هو قفزة إلى الأمام، إنه استدعاء لذاكرة حية، واستثمار في الحاضر، ورهان على المستقبل، وبين هذه الأبعاد الثلاثة، يجد الأردن نفسه أمام فرصة نادرة لإعادة بناء العلاقة بين شبابه ودولته على أساس من الثقة والمسؤولية والانتماء، في زمن لا يرحم الشعوب التي تتردد أو تتأخر.