"إم كي ألترا".. برنامج سري للاستخبارات الأميركية لغسل الأدمغة
في عالم يبدو مستوحى من صفحات رواية الديستوبيا الشهيرة "1984" للكاتب البريطاني جورج أورويل، كشفت تحقيقات صحفية ووثائق سرية عن برنامج سري أطلقته وكالة الاستخبارات الأميركية "سي آي أي" منذ خمسينيات القرن الماضي، باسم المشروع "إم كي ألترا" (MK Ultra)، هدفه السيطرة على عقول البشر باستخدام العقاقير المهلوسة، الصدمات الكهربائية، والتقنيات النفسية.
وقد بثّت هيئة الإذاعة الكندية (CBC) في عام 2020 سلسلة حلقات بودكاست بعنوان "غسيل الدماغ" (Brain Washed)، استعرضت تجارب مرعبة خاضها ضحايا البرنامج، الذين أصبحوا فئران تجارب بشرية دون علمهم، في واحدة من أخطر العمليات السرية في تاريخ الاستخبارات العالمية.
تجسيد رواية أورويل في الواقع
كان المشروع أشبه بتحقيق مباشر لما صورته رواية "1984"؛ دولة تستخدم العنف والقمع لإخضاع الشعب، حيث الحرب هي السلام، والعبودية هي الحرية، والجهل هو القوة. الضحايا في المشروع السري خضعوا لتعذيب نفسي وجسدي مروع يشبه غرفة "الغرفة 101" في الرواية، حيث خضع السجناء لأقصى درجات الألم لإجبارهم على تصديق أكاذيب مُصاغة بدقة.
في الرواية، كان بطل القصة "ونستون" مجبرًا على قبول أن "2+2=5"، ليس قولًا فحسب، بل تصديقًا كاملًا. بالمثل، حاول علماء "إم كي ألترا" تعديل إدراك الضحايا إلى درجة جعلهم يصدقون ما لا يصدقونه، مستخدمين عقاقير، صدمات كهربائية، والتنويم المغناطيسي.
المرحلة الأولى: عقار LSD والتجارب المدمرة
قاد المشروع الطبيب النفسي والكيميائي الأميركي سيدني غوتليب، الذي جندته وكالة الاستخبارات لإيجاد التركيبة الكيميائية لعقار يمكنه "غسل أدمغة" البشر. وقع اختياره على مادة ثنائي إيثيلاميد حمض اللايسرغيك (LSD)، التي اكتشفها الكيميائي السويسري ألبرت هوفمان عام 1943، وأظهرت قدرة مذهلة على تغيير إدراك الإنسان للواقع.
استحوذ غوتليب على مخزون LSD العالمي من شركة الأدوية الأميركية العملاقة "إيلي ليلي"، وبدأ توزيع العقار على مستشفيات نفسية، سجون، ومختبرات سرية في الولايات المتحدة وكندا، لتجريب تأثيراته على البشر، بدعوى دراسة خصائصه وتأثيراته على الوعي البشري.
المرحلة الثانية: المعهد السرّي في كندا
امتدت التجارب إلى معهد آلان التذكاري في مونتريال، حيث كان الطبيب الأسكتلندي الأميركي دونالد إيوين كاميرون مديرًا، وواحدًا من أبرز علماء الطب النفسي في أميركا وكندا.
كان كاميرون يستخدم أساليب علاجية مبتكرة، لكنها قاتلة، منها:
غرفة النوم: وضع المرضى في غيبوبة مستحثة بالأدوية، وأيقاظهم ثلاث مرات يوميًا للتغذية وقضاء الحاجة، امتدت لبعض الضحايا 30 يومًا متواصلة.
إزالة النمط (Depatterning): محاولة محو الهوية وأنماط التفكير لدى المرضى، لإعادة برمجة دماغهم كما لو كانوا "صفحة بيضاء".
جلسات صدمات كهربائية مكثفة: بلغت قوة الصدمات أحيانًا 70 إلى 100 ضعف القوة المعتادة.
إجبار المرضى على الاستماع لرسائل مسجلة طويلة، تزيد مدتها عن 20 ساعة يوميًا، في حالة النوم أو اليقظة، لتغيير سلوكياتهم وأفكارهم.
قصص ضحايا مأساوية
إيستر شراير: خضعت لعقاقير مهلوسة وصدمات كهربائية أثناء حملها الثاني، لتخرج منه جسدها ضعيفًا وعقلها محطمًا.
روبرت لوجي: شاب عمره 18 عامًا، دخل معهد آلان لعلاج ألم نفسي في ساقه، تعرض لصدمات كهربائية قوية، وجرعات هائلة من LSD، وقال: "شعرت وكأن أحدهم انتهك حرمة عقلي واخترقه".
الضحايا عانوا فقدان الذاكرة، فقدان الهوية، صعوبة أداء وظائف الحياة اليومية، وبعضهم اضطر لارتداء حفاضات بسبب فقدان السيطرة على جسده.
خلفية الحرب الباردة والمرشح المنشوري
كانت المخاوف من "غسل الدماغ" نتيجة الحرب الكورية وانتشار الشيوعية. فيلم "المرشح المنشوري" (1962) جسد هذه المخاوف، حيث جندي أميركي أعيد برمجته ليصبح "عميلًا نائمًا" لتنفيذ اغتيالات سياسية.
وكذلك، استخدمت وكالة الاستخبارات هذه المخاوف لتبرير تجاربها، بحجة أن أي تقنيات غريبة تمتلكها القوى الشيوعية يجب أن تمتلكها الولايات المتحدة.
وأسست وكالة الاستخبارات الأميركية واجهة علمية باسم جمعية بحوث البيئة البشرية (SIHE)، لتوفير تمويل سرّي للباحثين، ما سمح باستمرار التجارب دون كشف أمرها، مع إعداد نسخ عامة للأبحاث للنشر الأكاديمي، ونسخ سرية مخصصة لأرشيف الوكالة.
الفضائح والانكشافات
ظل المشروع سريًا حتى عام 1974، حين كشف الصحفي سيمور هيرش تحقيقًا مطولًا عن انتهاكات "إم كي ألترا"، مما أدى إلى تحقيقات الكونغرس الأميركي وإصدار أوامر تنفيذية عام 1976 تحظر إجراء أي تجارب على البشر دون علمهم.
يظل برنامج "إم كي ألترا" أحد أفظع الأمثلة على قدرة السلطة على التلاعب بالعقول البشرية. التجارب، التي استخدمت العلم كغطاء لارتكاب انتهاكات جسيمة بحق البشر، تحذّر من ضرورة حماية الأفراد من التجارب النفسية والتقنيات الحديثة التي قد تعيد إنتاج أشكال السيطرة على العقول بطرق أقل وضوحًا لكنها فتكًا.