تحجّرت الدموع في عيني منذ لحظة سماعي خبر اغتيال الصحفيين على شاشة الجزيرة.

 

لحظة كانت متوقَّعة، يطوف بي رعب أن تتكرر كما حدث قبل عام عند اغتيال الصحفي إسماعيل، وكما اغتالوا من قبل شيرين.
حينها، كانت الدموع ممكنة، وكان الغضب يصرخ من أعماق المشاعر.

هذه الإبادة التي لا رحمة فيها لا تترك مكاناً لإنسان لا يشبه ما يريدونه.
نحن، في نظرهم، مجرّد أشباه بشر، يُبقون على أنفاسنا فقط ليُثبتوا أمام هذا العالم الجبان المتواطئ أن هناك من لا يزال يتنفس، وأن الأكسجين الذي نتنشقه منّة من قوى الإبادة الغاشمة.

ذلك القهر الذي يدك القلب كالصخرة، يحشر الأنفاس لتشق طريقها نحو شهقة حياة بلا معنى.

هؤلاء ليسوا شهداء فحسب؛ إنهم شهود علينا، على هذه البشرية التي انعدمت منها الإنسانية.
هؤلاء ليسوا ضحايا؛ إنهم أضحيات هذا العالم الجشع الذي يتغذى على تفجير الأجساد بقنابله وسلاحه.
هؤلاء ليسوا بشراً؛ إنهم ملائكة هبطوا إلى هذه الحياة الغاشمة للحظة، ولم تتسع لهم بشاعتها.

ونحن، الذين لا نزال ننتظر دورنا في هذه المقتلة، لا نكاد نعرف أو نفهم أو نعي ما الذي نتمسك به.
هذه الحياة ليست لنا.
كأننا هبطنا على هذه الدنيا كما تُلقى حمولات المساعدات على رؤوس الجياع.
لا مكان لنا، ولا حاجة لوجودنا، سوى أن نعيش في ظلمات شرّ هذه البشرية.

لا رثاء لنا، ولا رثاء لهؤلاء النجوم التي هوت على هذه الأرض القاتلة لبعض لحظات؛ لأن مكانهم هناك، في سماء علّيين.
هذه الأرض لا تتسع للنجوم؛ هي للوحوش البشرية التي ارتدت زيّ المدنية والحداثة، وعاثت في الإنسانية فساداً لتبقى، وتهدم كلما علت، بتواطؤ القريب والبعيد، الداني والقاصي من أمثالهم.

هذه الحياة البائدة لا تتسع للحقيقة التي هبطنا من أجلها.
لا مكان لنا هنا.
ولا مكان للحقيقة التي نشعرها، نحسّها، ونفهمها.

إنهم يقتلون الحقيقة كما لو كانت طيفاً يهدّد وجودهم المفعم بالشر المستطير.
يقتلون الإنسان فينا، لأن كل وجه فلسطيني يعكس أمامهم حقيقة إجرامهم وبشاعة أفعالهم.
يقتلون الشهود عليهم، حتى لا يبقى من يفضحهم.

هذا العالم يملكه قتلة الحقيقة،
حقيقتنا التي لا مكان لها في هذه الفظاعة.

لا رثاء لشهودٍ شهداء على هذه الحقيقة…
لأنهم تلك النفوس التي آثرت الرجوع إلى ربها،
راضيةً مرضيّة،
متطهّرةً من دنس هذه الأرض،
مُحلِّقةً في سماءٍ لا يبلغها شرّ،
ولا تدنّسها يد قاتل.

ارتقى أنس الشريف، وبقي صوته حداً قاطعاً يمضي في أعماقنا، يشقّ سكون المشاعر، ويبعث فيها حياةً ممزوجة بغضبٍ يخنقه الرعب واليأس.
ارتقى محمد قريقع، وبقيت عيناه تصرخ بصمتٍ مبلّل بالرجاء، كغريقٍ في بحرٍ لا يعرف السكون.

وبقينا نحن، بلا رجاء، بلا أمل، بلا جدوى…
عالقين بين انتظار نهاية هذه المقتلة،
أو انتظار نهايتنا نحن.