ابورمان يكتب : خطاب «البكائيات» الذي لا يجدي!

 محمد ابو رمان 

أليس من الظلم أن تُشوَّه صورة الأردن ودوره في القضية الفلسطينية، وهو الدولة التي دفعت أثماناً باهظة - سياسياً واقتصادياً وأمنياً - من أجلها؟ أليس من الجور أن تتحوّل الدولة التي كانت – ولا تزال- السند الأقرب للفلسطينيين، والتي لم تتوقف يوماً عن الدفاع عن غزة في المحافل الدولية وكسر الحصار جواً وبراً، إلى مادة للتشويه وحملات الشيطنة؟

ما شهدناه في الأسابيع الأخيرة من تهجم على سفارات أردنية في لندن وألمانيا وهولندا وبلجيكا وكندا وواشنطن، إلى جانب إساءات وتشويه إعلامي وحملات منسقة على منصات التواصل الاجتماعي، لم يكن حراكاً عفوياً ولا مجرد غضب شعبي بريء. ما يجري اليوم جزء من حملة منظمة، مرتبطة بأجندات سياسية واضحة، وفي مقدمتها المتعاطفين في الخارج مع دوائر الإسلام السياسي، أو الذين ينجرون وراء حملات تطبخ بصورة دقيقة وتستخدم الآحرين لتنفيذها.

هل يخدم ذلك غزة أو القضية الفلسطينية أو حتى حماس نفسها؟ الجواب ببساطة: لا. ثم يبرز سؤال أكبر: لماذا الأردن بالذات؟ لماذا تُستهدف عمّان التي حوّلت القضية الفلسطينية إلى بوصلة سياستها الخارجية، بينما لا تُسأل دول أخرى لم تقدم شيئاً يذكر لغزة أو حتى أقامت علاقات طبيعية مع إسرائيل وتواصل تبادل المنافع معها؟ لماذا لا يُوجَّه هذا الغضب إلى أكبر الدول المصدرة لإسرائيل تجارياً؟ أو إلى دول أخرى تحافظ على قنوات مفتوحة مع تل أبيب؟

الحقيقة أن الأردن اليوم يدفع فاتورة مزدوجة: من جهة، يقاتل في المحافل الدولية دفاعاً عن الحق الفلسطيني، ويقود جسور الإغاثة الجوية والبرية لإيصال المساعدات لغزة في ظروف معقدة؛ ومن جهة أخرى، يتحمّل تشويهاً منظماً يتناقض مع مواقفه الحقيقية. وهذه مفارقة تحتاج إلى أن تُقال بصراحة: من يشيطن الأردن إنما يوجه طعنة لأحد أهم سندات الفلسطينيين في المنطقة.

لكن هنا أيضاً مسؤولية أردنية لا يمكن إنكارها. الأردن لم ينجح في بناء رواية إعلامية ذكية تواكب جهوده السياسية والدبلوماسية وتواجه الحملات المضادة. فبرغم ما يقوم به الملك شخصياً من قيادة سياسية نشطة على مستوى العالم، ودور الدبلوماسية الأردنية التي لا تهدأ في الدفاع عن فلسطين في الأمم المتحدة والمحافل الدولية، حتى بات العديدون من دبلوماسيين أجانب وغربيين ورأي عام غربي يرى في أيمن الصفدي، وزير الخارجية الأردني، بمثابة وزير خارجية فلسطين، ناهيك عن المستشفيات الميدانية المنتشرة في قطاع غزة الضفة الغربية، بالرغم من ذلك فإنّ هذه الجهود لا تجد دائماً من يوازيها في السرد الإعلامي المؤثر.

القوة الناعمة الأردنية – المتمثلة في مصداقيته السياسية، ورصيده الأخلاقي في الدفاع عن القضايا العادلة، وشبكة تحالفاته الإقليمية والدولية – بحاجة إلى من يبرزها ويقدمها للعالم العربي والدولي بلغة يفهمها ويتفاعل معها.

خطأ فادح، بل خطيئة بحق الأردن وجهوده وصورته ودوره أن نكتفي بالحوقلة أو الردود السطحية أو التذرع بعدم وجود إمكانيات مادية، أو الأخطر من ذلك الاستهتار بهذه الصورة التي ترسم والحملات التي تعد بعناية ضد  الأردن؛ فالصورة الإعلامية باتت اليوم قضية أمن قومي وركيزة من ركائز الاستقرار السياسي، وهي في صميم علاقات الأردن الخارجية.

مواجهة ذلك تقتضي تغيير المقاربة بصورة كاملة؛ والخروج من زاوية النظر إلى الإعلام من عقلية المنع والتقييد، إلى المبادرة والصناعة والإبداع؛ وأول الخطوات هو «مطبخ إعلامي» محترف، يتشكل من سياسيين وإعلاميين وخبراء استراتيجيين، يُعيد صياغة الرسائل الأردنية ويقدّمها بذكاء وإقناع. فغياب هذا المطبخ يجعل الساحة فارغة أمام تحليلات مرتجلة وسطحية يقدمها بعض المحللين والنشطاء – داخلياً وخارجياً – ممن يتحدثون بلا بيانات دقيقة أو رسائل مدروسة، فتكون النتيجة أحياناً أن تفسيراتهم ومبرراتهم للسياسات الأردنية أكثر ضرراً من حملات التشويه نفسها.

الأردن بحاجة إلى أن يتحدث مع العالم العربي بلغة صادقة ومباشرة، وأن يشرح ماذا يفعل؟ ولماذا يفعل؟ وكيف يوازن بين مواقفه ومصالحه؟ بل من يتحدث حتى إلى الرأي العام الأردني، لكن برسائل تحترم العقل والمنطق، وأن تكون الخطوط الإعلامية- السياسية متبادلة، فالإعلام لم يعد فقط فاعلاً متلقياً، من الضروري ان يكون له دور أساسي في صناعة السياسات وتوجيه القرارات؛ وأن يؤخذ بعين الاعتبار في التغذية العكسية بصورة كبيرة.

لم تعد الحروب والمعارك اليوم عسكرية فقط؛ إنها معركة روايات وصور ورسائل. ومن دون وعي استراتيجي وإعلام ذكي قادر على إدارة هذه المعركة، سيبقى الأردن هدفاً سهلاً لحملات التشويه، ليس فقط في القضية الفلسطينية بل في كل الملفات الداخلية والخارجية.