الأعراف العشائرية والدبلوماسية الجيوعشائرية بين الأمن والسياسة: النموذج الأردني
المحامي عامر محمد أبو حسان *
في عالم عربي يشهد تفككًا أمنيًا وغيابًا للثقة بين المجتمعات والدولة، يظهر النموذج الأردني في إدارة الأعراف العشائرية كحالة متقدمة تستحق التوقف والتحليل. فالعشيرة في الأردن ليست خصمًا للدولة، بل أداة وطنية فاعلة، تُشكّل جزءًا من معادلة الأمن الداخلي والاستقرار الإقليمي، دون أن تكون بديلًا عن القانون أو المؤسسات السياسية. إذ إن الدولة الأردنية تشكلت على قاعدة اجتماعية عشائرية، وكانت الغالبية الساحقة من السكان تنتمي إلى بنى قبلية مترابطة تحكمها أعراف عشائرية راسخة، وتُفضّ النزاعات عبر ما عُرف بـ"القضاء العشائري".
ومع بدايات تأسيس الدولة، تم تنظيم هذا القضاء ضمن إطار رسمي، ويُعتبر الملك عبدالله الأول المؤسس هو من أسّس التوازن بين السلطة المركزية والعشائر والقبائل. ورغم الامتداد الجيوعشائري لها، إلا أنه نجح في دمجها ضمن كيان وطني حديث. حتى صدر قانون إلغاء القوانين العشائرية رقم 34 لسنة 1976، والذي أعلن بوضوح أن الأردنيين أمام القضاء والقانون سواء، لا فرق بين حضري وبدوي.
لكن الدولة - بقيادة الملك الحسين، الذي كان ينظر إلى العشيرة "كنبع خير وعطاء ومعين شرف وكبرياء، ولم تكن يومًا عبئًا أو عيبًا أو مذمة لا قدّر الله" - تعاملت بذكاء مع هذا التحوّل؛ فلم تُلغِ الأعراف، بل أعادت تدويرها داخل بنية الدولة. فتحوّلت العشائر من سلطة موازية إلى جزء أصيل من كيان الدولة، ما جنّب الأردن صدامًا بين الدولة والمجتمع، ورسّخ نموذجًا فريدًا من التكامل بين العرف والقانون.
أولًا: الأعراف العشائرية كأداة أمن أهلي
تمثّل الأعراف العشائرية في الأردن نظامًا مجتمعيًا موازيًا للعدالة، خصوصًا في المناطق ذات الطابع التقليدي. هذه الأعراف لا تُمارَس خارج القانون، بل إلى جانبه، من خلال مفاهيم مثل العطوة، والجاهة، والصلح، كوسائل فعّالة لاحتواء الخلافات، خاصة في جرائم القتل والاعتداء، مما يمنع الانزلاق إلى الانتقام والثأر، ويعيد هيبة الأطراف ضمن إطار يحفظ الكرامة ويمنع التصعيد.
هذه الأعراف تشكّل رادعًا اجتماعيًا، وليست بديلًا قضائيًا. فهي لا تصدر أحكامًا قانونية، بل تُطفئ النار وتُعيد التوازن وتحافظ على السلم الأهلي. هنا، تعمل العشيرة كمساعد قاضٍ، لا كقاضٍ بديل.
مثال حي على هذا الدور: وساطة الشيخ ضيف الله القلاب في نزاع عشائري عام 2022، بعد جريمة قتل كادت تشعل فتنة واسعة. ورغم فشل الجاهة الأولى، إلا أن حكمة العقلاء أدّت إلى صلح عشائري أنهى التوتر وحقن الدماء، في مشهد يعكس دور الأعراف في حماية الأمن الأهلي وضبط النزاعات في ظل غياب الحلول الرسمية السريعة.
ثانيًا: الدولة الأردنية واحتواء الأعراف بدل قمعها
لم تلجأ الدولة الأردنية إلى إلغاء الأعراف أو تجريمها، بل انتهجت سياسة احتواء واقعية. فتم دمج الأعراف ضمن الإطار العام للنظام الرسمي، دون أن تفقد الدولة سلطتها أو يضعف القانون. هناك تنسيق فعلي، حتى وإن لم يكن معلنًا، بين شيوخ العشائر والجهات الرسمية، خصوصًا في القضايا الحساسة التي تتطلب وساطة اجتماعية ذات طابع رمزي وقيمي.
ونظرًا للامتداد العشائري للنظام الهاشمي، ومعرفته العميقة بالبيئة العشائرية، فقد أولى لها مستشارية خاصة في الديوان الملكي، لإبقاء التواصل مباشرًا وشفافًا مع العشائر، بقيادة عميد آل البيت، جلالة الملك عبدالله الثاني، بولايته الدينية والعشائرية. وقد اعتبر العرف العشائري جزءًا من نظام العدالة، لا بديلًا عنه، وأن العشيرة ساهمت في تأسيس الدولة الأردنية الحديثة كدولة مؤسسات وقانون.
هذا التكامل جنّب الأردن سيناريوهات انفجرت فيها المجتمعات داخليًا، كما في اليمن وليبيا، حيث غاب التوازن بين القبيلة والدولة.
ثالثًا: الأعراف العشائرية كأداة دبلوماسية جيوعشائرية
لم يقتصر دور الأعراف على الداخل فقط، بل أصبحت الوساطات والجاهات الأردنية أدوات وساطة إقليمية غير رسمية. فقد تدخلت قيادات عشائرية وسياسية أردنية في نزاعات كبرى بين عشائر الإقليم، ما يدل على امتلاك الأردن لأداة "دبلوماسية جيوعشائرية" تتفوق أحيانًا على القنوات الرسمية.
فالعشائر الأردنية تمتلك امتدادات تاريخية في العراق، سوريا، فلسطين، والسعودية، مما يجعل منها شبكة تواصل غير رسمية تحفظ الأمن وتُهدئ الأزمات.
مثال على ذلك ما يحدث في الجنوب السوري، حيث يتيح الامتداد الجيوعشائري للأردن النفاذ إلى العمق السوري عبر واجهات عشائرية لا رسمية دون كلفة التورط المباشر. كما شكّلت شخصيات أردنية عشائرية بارزة، مثل الشيخ برجس الحديد، رأس حربة للدبلوماسية العشائرية، وتمكنت من إنجاز وساطات وإلغاء أحكام بالإعدام إكرامًا له.
رابعًا: دروس من السودان – عندما أُلغيت الأعراف دون بديل
السودان يقدم نموذجًا مضادًا. إذ كان نظام "الأجاويد" يُستخدم كآلية وساطة عشائرية تقليدية. ولكن بعد انقلاب النميري عام 1971 وسحب الصلاحيات من الشيوخ لصالح الحكومة المركزية دون بديل، تراكمت قضايا الثأر، وانتشر العنف، وتفككت المجتمعات، مما ساهم في انفصال الجنوب.
أدركت جنوب السودان لاحقًا هذا الخلل، وأعادت الاعتراف بمحاكم العرف ضمن أطر قانونية عام 2009.
خامسًا: دمج البيئات المختلفة داخل الدولة
في مجتمعات مثل الدروز في لبنان وسوريا وفلسطين، نشهد أزمات ناجمة عن غياب وساطات تقليدية أو لغة مفهومة بين مكونات مختلفة، ما يجعل الدولة عاجزة عن التدخل الفعّال. هنا تبرز أهمية ما يقوم به الأردن، من حيث الاستعانة بوساطات وزعامات عشائرية محايدة من خارج البيئة المباشرة محل النزاع، مما يسهم في تهدئة التوترات ومنع التصعيد.
سادسًا: العشيرة كمكوّن سياسي داعم لا بديل
في الأردن، لم تملأ العشيرة فراغ الأحزاب، لكنها تعاملت مع الدولة كمكوّن اجتماعي وسياسي حقيقي. الدولة لم تشجع تحويل العشيرة إلى حزب، لكنها احترمت ثقلها الشعبي، وتفاعلت معها في صناعة القرار المحلي، ما سمح بتمثيل اجتماعي مرن دون إقصاء للأحزاب أو اختزال للسياسة.
سابعًا: العشيرة أداة استقرار لا تهديد
التجربة الأردنية أثبتت أن العشيرة يمكن أن تكون حليفًا للدولة، لا خصمًا لها. فالدولة تعاملت بواقعية مع المجتمع العشائري، واحتوته، وجعلت منه أداة استقرار، في حين تحولت العشائر في دول أخرى إلى أدوات صراع، كما في السودان وليبيا وسوريا.
الخاتمة: النموذج الأردني قابل للتصدير
الأردن لم يقدم حلًا مثاليًا فحسب، بل نموذجًا واقعيًا قابلًا للتكرار في دول أخرى. توازن مرن بين القانون والعرف، يجعل من الأعراف العشائرية مساعدًا للقضاء لا بديلاً عنه، ومن الجاهة وسيطًا محليًا لا سلطة موازية، ومن العشيرة رافعة سياسية لا تحل محل الأحزاب، بل تعزز دورها من خلال رفدها بخيرة أبنائها.
وعلى خلاف أنظمة إقليمية تبنت أسلوبًا عدائيًا مع مكونات المجتمع، انتهج الأردن سياسة متوازنة تقف على مسافة واحدة من الجميع. وفي ظل تصاعد الأزمات القبلية في المنطقة، من اليمن إلى الصومال، ومن شرق ليبيا إلى العراق، فإن ما فعله الأردن يستحق الدراسة كمقاربة قابلة للتطبيق، شرط أن تُصاغ ضمن سياسات ذكية ترى في العشيرة أداة بيد الدولة، لا تهديدًا خارجها.
* ماجستير قانون – الجامعة الأمريكية / واشنطن