النحاس الأردني: ثروة وطنية تستوجب الاهتمام!

 الدكتور علي المر
 

أعلنت وزارة الطاقة والثروة المعدنية عن نيتها منح عطاء استثمار النحاس الأردني؛ وذكرت أن رقم الاحتياطي من هذا الخام، أو الثروة الوطنية، يقدر بثلاثين مليون طن. وغالبًا ما تكون هذه الأرقام أولية، يمكن أن تزيد أو تنقص مع الزمن، وفق دقة البيانات ودراسات الاستكشاف التي بناء عليها تجرى التقديرات.

بيد أنني أستطيع القول أن تقديرات الوزارة متحفظة، ربما لأسباب فنية أو سياسية، وذلك بناء على تقديرات سلطة المصادر الطبيعية في العقد الأول من القرن الحالي. يوم حمل وزير الطاقة والثروة المعدنية دراسة جدوى أولية لاستثمار النحاس الأردني، أعدها القسم المختص في سلطة المصادر الطبيعية، وعرضها برفقة مدير عام السلطة، في حينه، على مجلس الوزراء. وكانت التقديرات في الدراسة تشير إلى أن حجم الاحتياطي الوطني من هذه الثروة المعدنية، يزيد عن 50 مليون طن؛ وكان سعر الطن الواحد في السوق الدولي، في حينه، يزيد على 7000 دولار. غير أن مجلس الوزراء لم يتبن الفكرة، بأغلبية كبيرة، حتى أعادت الوزارة الكرة هذه الأيام. والحق أنها خطوة، نحرص  جميعًا على نجاحها، ويزيدنا حرصًا على نجاحها ما يمتاز به الخام الأردني من خصائص، تجعل منه سلعة اقتصادية واستراتيجية كبرى؛ وسهلة المنال وهذه قصة نحاس الأردن العجيبة:

في عام 88، وأثناء عملي مديرًا للطاقة النووية استدعينا خبيرًا  لبدء مشروع التنقيب عن اليورانيوم في الأردن، مدته 3 سنوات ممول من الوكالة الدولية للطاقة الذرية. غاب الخبير، وكان اسمه راديسلا وهو أرجنتيني، رئيس هيئة الطاقة الذرية في بلاده، وبرتبة نائب رئيس جمهورية وكان كهلًا، غاب يومين في الصحراء؛ ولما عاد صعد إلى مكتبي في الطابق الخامس ودخل مسرعًا، وهو يلهث، ومعه قطعتا حجر رملي، وضربهما ببعض، وتكسرتا على الطاولة أمامي. فجمع بحفنته الفتات الأخضر، ورفعه في وجهي، وهو يقول: انظر سيد مر؟ انظر سيد مر؟ قلت ما هذا؟ قال نحاس! نحاس؟ قلت وماذا يعني؟ قال هذا لا يوجد مثله في العالم! هذا اقتصادي جدًا! النحاس يباع في البورصة مثل الذهب وبأسعار مرتفعة!؟ إنه على وجه الأرض وبكميات كبيرة؟ لم أر مثله في العالم. ولم أدرس!

كتبت مذكرة للوزير، وكان يومها الدكتور هشام الخطيب، وأخبرته بما قال الخبير. فطلب مني كتابة مذكرة لمدير عام سلطة المصادر الطبيعية وبدأ مشروع للتنقيب عن النحاس مدته ٣ سنوات.

بعد شهر، من تلك الحادثة، سافرت مع أمين عام الوزارة إلى الباكستان لبدء التعاون النووي معها. وأخذونا في جولة شملت المنشآت النووية في إسلام أباد ونيلور ولاهور وكراتشي؛ ومنها معهد المعادن في لاهور. وتجولنا في أقسامه.

في قسم النحاس شرح لنا مهندسون عن النحاس في الباكستان. وطلب أحدهم منا النظر خلال عدسة مجهر يكبر ١٠ آلاف مرة،  وسألنا: هل ترون نقاطًا خضراء عميقة؟ قلنا نعم. قال هذا نحاس ؟ هذا حجر من أغنى أنواع الحجارة الرملية بالنحاس في الباكستان ونحن نستخرج النحاس منه؟

عدنا إلى عمان، وذكرنا الوزير بما قاله الخبير راديسيلا. واهتم كثيرًا وبدأت رحلة كشف ٥٢ مليون طن التي أرادت سلطة المصادر استثمارها، عندما ارتفعت الأسعار إلى نحو 7500 دولار للطن؛ وكان رأي مجلس الوزراء، صرف النظر في حينه.

واليوم، وقد قررت وزارة الطاقة مشكورة تحريك الموضوع، لما له من قيمة اقتصادية واستراتيجية، كما أسلفنا أيضًا، فإن الحرص واللهفة على نجاح هذا المشروع الحيوي، والكنز الكبير، يدعونا للحرص على عدم تكرار أخطاء محاولات الاستثمار السابقة؛ فلقد جرت العادة، أو حصل كثيرًا، أنه إذا قررت وزارة، أو جهة ما، طرح فكرة استثمار ثروة وطنية، أو إنشاء مشروع من أي نوع، تداعى المنتفعون إلى الاتصال بشركات، بعضها طارئة، أو حتى وهمية، فتتقدم للفوز بالعطاء، فترتفع أسعار أسهمها، ثم تباع الشركة، الجمل بما حمل، أو تتلاشى بعد تحقيق بعض المكاسب السوقية. فيخسر المشروع ويخسر البلد. حصل مثل هذا في مشروع اليورانيوم.

كنت يومها مديرًا لليورانيوم، فقررت السلطة دراسة إمكانية استثمار اليورانيوم الأردني، بعد أن ارتفع سعر برميل النفط لما يقرب من 160 دولارًا فأصبح الاستثمار في الخامات المتدنية التركيز من اليورانيوم محل اختبار. وقامت السلطة بوضع إعلان على موقعها، فجاءت شركتان إحداهما كانت أنشئت خصيصًا لليورانيوم الأردني، في جزر نائية، لا تخضع لقانون. والأخرى قل أن يزيد عدد موظفيها عن اثنين؛ كما جاء في كتبا عرضها. ولقد قررت السلطة عدم ملاءة الشركتين، فنيًا وماليًا، ودعت إلى إحالة عطاء دولي. وهو ما نود التنبيه له في مشروع النحاس أو غيره.

إن الشيء الذي يجب أن نضعه نصب أعيننا ونحن نفكر، ونسعى للخروج من دائرة الشكليات إلى العمل المنتج، هو أن الضائقة الشديدة والحاجة الملحة لبلدنا، والخصائص المثالية لخام النحاس الأردني، من حيث وفرة الاحتياطي، وكونه سطحي لا يحتاج إلى حفر آبار عمقية أو مناجم تحت الأرض، وإزالة ملايين الأطنان من الركام والطمم، وتركيزه المرتفع جدًا، ولا يحتاج لعمليات غسل وتحويل كيميائي مكلفة، وأن استثماره من الوفرة والسهولة بمكان، بحيث أن العرب الأنباط كانوا يستخرجونه قبل مئات السنين، بإشعال النار فوق الأرض فيجري النحاس، من تحتها؛ وكذلك فعل العثمانيون؛ كل ذلك يدعونا للحذر من أن أي خطأ في اختيار الشركة، سواء بسبب نقص الملاءة العلمية أو الفنية أو المالية، أو الخبرة أو الممارسة، للشركة التي سيجري التعاقد معها سيكلفنا الكثير. وقد يطوي ملف أهم ثروة وطنية، عقودًا طويلة، قبل فتحه مرة أخرى، إن قدر له أن يعاد فتحه.