الدباس يكتب: هل كان حلّ الدولتين وعداً.. أم مصيدة؟!..

 محمود الدباس - أبو الليث..

حين طُرحت فكرة حلّ الدولتين.. تسابقت العواصم الكبرى في العالم لاحتضانها.. وتغنّى بها ساسة الغرب كأنها الخلاص العادل.. بينما صوّرتها وسائل الإعلام.. على أنها الوصفة السحرية.. التي ستطوي صفحة الدم.. وتفتح أبواب الدولة الفلسطينية المستقلة..

غير أن السنوات كشفت.. أن هذه الفكرة لم تكن.. إلا أداة سياسية مرنة.. تستدعيها القوى الدولية.. حين يعلو صوت الحق الفلسطيني.. أو يشتد الغضب الشعبي العربي.. أو يُحرج الكيان الإسرائيلي دوليا بعد مجزرة.. أو اجتياح.. فيلوذ الجميع إلى ظلال حل الدولتين.. لا لينفذوه.. بل لتهدئة الشارع.. وشراء المزيد من الوقت للاحتلال ليتقدّم..

كانت الفكرة تُعرض كأنها منطقية.. دولتان لشعبين.. لكن الوقائع على الأرض.. كانت تُبنى بعكس هذا الشعار.. فبينما كانت الوفود تفاوض وتصافح.. كانت الجرافات تشقّ الجبال.. لبناء مستوطنات جديدة.. وبينما كان العالم يتحدث عن حدود 1967.. كان الكيان الإسرائيلي يمحو تلك الحدود فعلياً.. ويُقسم الضفة إلى كنتونات معزولة ومحاصرة.. ويُفكك الحلم قطعة قطعة.. ولا أحد يوقفه..

منذ اتفاق أوسلو وحتى اليوم.. تضاعف عدد المستوطنين في الضفة الغربية.. من نحو 110 آلاف.. إلى ما يزيد عن 700 ألف مستوطن.. في انتهاكٍ صارخٍ.. لكل ما نُصّ عليه في اتفاق أوسلو.. وهو ما يكشف بما لا يدع مجالاً للشك.. أن الاحتلال.. لم يكن بصدد التنازل عن الأرض.. بل كان يعيد ترتيب السيطرة عليها بمسميات جديدة.. وأن الاتفاق.. كان في الحقيقة هدنة طويلة الأمد.. أتاح للاحتلال أن ينهش الأرض.. بلا مقاومة دولية حقيقية.. ولا ردّ فعل عربي قادر..

أما ساسة الاحتلال.. فقد قالوها بأفواههم.. وإن تنوعت أساليبهم.. فبنيامين نتنياهو.. صرّح أكثر من مرة.. أن الدولة الفلسطينية لن تقوم.. مادام في الحكم.. وأن أي كيان فلسطيني.. يجب أن يكون منزوع السلاح.. وتحت السيطرة الأمنية الإسرائيلية الكاملة.. نفتالي بينيت   ذهب أبعد من ذلك وقال صراحة.. "لا دولة فلسطينية.. ولا حتى شبر واحد لهم".. وأرييل شارون.. كان ينفذ على الأرض.. ما يفوق أي تصريح.. بينما يردد مقولته الشهيرة عن العرب.. بأنهم لا يقرأون.. وإن قرأوا لا يفهمون.. وكأنه يراهن على جهلهم بما يُدبّر لهم..

في المعسكر الأميركي.. لم تكن المواقف أقل وضوحاً.. جون بولتون قالها صراحة.. "حلّ الدولتين كان خطأ من البداية".. ودونالد ترامب صاغ صفقة القرن بطريقةٍ تُفرغ أي مفهوم للدولة من محتواه.. فلا جيش.. ولا حدود مستقلة.. ولا عودة.. ولا قدس.. ولا سيادة.. كل ما هنالك.. بلدية موسعة.. تحت إشراف الاحتلال.. وحتى هيلاري كلينتون.. كشفت في مذكراتها.. أن المفاوضات كانت متاهة تُعيد نفسها.. وكلما اقتربت من نتيجة.. يعيد الإسرائيليون الخط إلى نقطة الصفر.. ويطلبون تنازلات إضافية..

كل هذه الشهادات.. لم تخرج من فم مقاوم.. أو كاتب عربي غاضب.. بل من فم صناع القرار في الغرب.. والاحتلال ذاته.. وهذا وحده كافٍ لفهم.. أن الحديث عن حلّ الدولتين.. لم يكن أكثر من تكتيك سياسي.. يُستخدم حين تضيق الخيارات.. ويُعاد تدويره.. كمنفذ للهروب من الالتزام الأخلاقي.. والضغط الجماهيري..

ما يُسمى بحل الدولتين.. كان مجرد مُسكِن مؤقت.. يُحقن في شريان الوعي العربي والدولي.. كلما لاحت بوادر انتفاضة.. أو توحدت الكلمة.. أو اقترب الفلسطينيون من تشكيل حالة إجماع.. فيُعاد ضخ هذه العبارة كأمل قادم.. رغم أن كل الوقائع تؤكد.. أن الأرض تُسرق كل يوم.. وأن الخريطة تتقلص كل عام.. وأن الحقوق لا تعود بالتمنّي.. بل بالوعي.. والصمود.. ورفض الانخداع..

وهكذا.. فإن السؤال لم يعد.. هل سينجح حل الدولتين؟!.. بل.. هل كان هناك أصلاً نية حقيقية لهذا الحل؟!.. والجواب تجيب عنه الجرافات.. التي لم تتوقف.. والمستوطنات.. التي تتكاثر كالسرطان.. والخطاب السياسي الغربي.. الذي يغازل السلام لفظاً.. ويُسلّح الاحتلال فعلاً..

لقد آن الأوان.. أن نكفّ عن ملاحقة السراب.. وأن نعيد تعريف الصراع كما هو.. لا كما أرادوا له أن يبدو.. فهذا احتلال إحلالي.. لا يعترف بشريك.. ولا يؤمن بعدالة.. ولا يفهم إلا منطق القوة.. فأين نحن من هذا الإدراك؟!.. وهل ما زلنا ننتظر دولة.. من كيان لا يعترف بوجودنا كعرب على أرضنا أصلاً؟!..

وعلينا ان نعي تماماً.. أن ما أطلقَ علبه بحل الدولتين.. وُجِد لِيُقال.. لا لِيٌنَفَذ..

محمود الدباس - أبو الليث..