من باكو الى بيروت :إسرائيل وإيران تتبادلان بناء جبهات النار

 

د. نبيل العتوم

حين تهبط طائرات شحن عسكرية أذربيجانية في قاعدة "بن غوريون" الإسرائيلية، وتغادر محملة بـ"شحنات عسكرية كبيرة" إلى باكو في خضم حرب محتدمة، فإن ما يحدث يتجاوز مجرد دعم لحليف في نزاع إقليمي، ليكشف عن استراتيجيات أعمق من الجغرافيا السياسية، والحرب بالوكالة، وإعادة تشكيل ميزان القوى على تخوم إيران.

إسرائيل لا تبيع السلاح لأذربيجان فقط، بل توظّف العلاقة معها كامتداد أمني واستخباري متقدم على الحدود الشمالية لإيران. منذ أكثر من عقد، برزت باكو كواحدة من أكثر شركاء تل أبيب حساسية وسرية، حيث تتلاقى مصالح الطرفين: الأولى تبحث عن موطئ قدم على حدود خصمها الأخطر؛ إيران، والثانية تبحث عن سلاح نوعي يُحدث فارقًا في موازين القوة؛ أرمينيا .

شحنات الأسلحة ليست عابرة أو رمزية. التقارير والتسريبات الاعلامية تشير إلى نقل أسلحة نوعية ، تشمل طائرات مسيّرة، وصواريخ دقيقة، ومنظومات تشويش واستطلاع، وبعضها قد  يُختبر عمليًا لأول مرة على الجبهة الأرمينية كغطاء . لكن القصة الأوسع ليست في ساحة قره باغ، بل في استخدامها كغلافٍ لعملية تطويق إقليمي أعقد ضد إيران.

فكما بنت إيران "مصدات نار" داخل العمق العربي بذريعة مواجهة إسرائيل – عبر تسليح الميليشيات في العراق وسوريا ولبنان واليمن – ودفعت بهذه الدول إلى حافة الانهيار خدمةً لمشروعها التوسعي، تسعى إسرائيل بدورها إلى خلق مصدات عسكرية واستخبارية تحاصر إيران من خاصرتها القوقازية، وتمدّ أدوات الرصد والضرب إلى عمق أراضيها. المنطقة كلها تتحول إلى جبهات متقابلة، يزرع فيها الطرفان خطوط اشتباك مستقبلية على أراضي الآخرين. هكذا، تتبادلان بناء جبهات النار، واحدة في باكو، وأخرى في لبنان وبغداد وصنعاء، وامتداداتهما في كل اتجاه.

وفي هذا السياق، أصبح الخط الجوي بين " قاعدتي بن غوريون وعوفدا" وباكو، في نظر طهران،  أكثر من مجرد جسر عسكري، بل حلقة في سلسلة تهديدات مباشرة للأمن القومي الإيراني. ومع تصاعد وتيرة الاتهامات الإيرانية لأذربيجان بالسماح لإسرائيل بتنفيذ عمليات عسكرية واستخبارية انطلاقًا من أراضيها، تتزايد التقديرات  بأن تل أبيب قد تستأنف ضرباتها المباشرة ضد أهداف داخل إيران، مستفيدة من الغطاء الجغرافي والسياسي الذي توفره باكو. هذا الاحتمال لا يبدو بعيدًا، خاصة في ظل حالة الاشتباك الإقليمي المتصاعد، وسعي إسرائيل لإبقاء إيران تحت الضغط المستمر، سواء عبر الجبهات النشطة أو عبر "الحدود الصامتة" في القوقاز.

لكن هذا الدور لا يخلو من المخاطر. تصاعد الدعم الإسرائيلي لأذربيجان قد يدفع إيران إلى الرد، سواء عبر تسخين جبهات عربية جديدة أو بتحريك الأقليات داخل اذربيجان . كما أن إقحام السلاح الإسرائيلي في الصراعات الإقليمية يُظهر إسرائيل كفاعل نشط في هندسة الجبهات وتفكيك الجغرافيا السياسية المحيطة بإيران، لا كدولة تكتفي بردود الفعل.

في النهاية، ما يجري بين إسرائيل وأذربيجان ليس مجرد تجارة سلاح، بل امتداد لصراع أوسع تُعاد فيه هندسة الشرق الأوسط وما حوله بالنار والتجسس والتحالفات الخفية. تمامًا كما أشعلت طهران المشرق العربي وغطته بالرماد باسم "تحرير القدس"، تعمل تل أبيب الآن على تطويقها من شمالها القوقازي، حيث الجبهة هادئة في الظاهر... ومشتعلة في العمق.