هل يُستدرج الجيش الأردني إلى فخ جبهة السويداء؟
د. نبيل العتوم
وسط تسريبات غير مؤكدة يتم تداولها عن احتمالية تفاهم أردني–أميركي–تركي–سوري، تلوح في الأفق ، وملامح لسيناريو مثير للجدل قد يتشكل من خلال دخول 2500 عنصر من قوى الأمن السوري إلى محافظة السويداء لبسط السيطرة الأمنية، مع بند ينص على تدخل عسكري أردني مباشر، جويًا وبريًا، في حال أخلّت ميليشيات الشيخ الهجري بالاتفاق وهاجمت قوات النظام. وإذا صحّت هذه التسريبات – رغم أنني أستبعدها تمامًا – فإن الأردن سيكون أمام تحوّل غير مسبوق في دوره جنوب سوريا، من ضامن سياسي وأمني إلى لاعب ميداني مباشر، وهي خطوة تطرح جملة من التساؤلات والمخاوف.
السويداء ليست رقعة جغرافية عابرة، بل عقدة طائفية وميدانية وأمنية شديدة التعقيد. التدخل الأردني عسكريًا فيها لن يكون نزهة سريعة بل مقامرة محفوفة بالألغام؛ فالميليشيات المسلحة المرتبطة بالشيخ الهجري تملك بنية تعبئة شعبية، وخبرة ميدانية، وشبكات دعم خارجية غير مرئية، خاصة من جانب إسرائيل، وقد تتحول أي مواجهة معها إلى صراع استنزاف على النمط اللبناني أو اليمني. والأسوأ، أن أي دخول أردني بري سيضع قواتنا في مرمى نيران قوى إقليمية تحترف اللعب من خلف الستار: من بقايا التنظيمات الشبحية لإيران وميليشياتها، إلى خلايا داعش النائمة، وصولًا إلى وحدات استخبارات إسرائيلية وأميركية قد تسعى لإعادة رسم الجنوب السوري على وقع الدم وتوريط الآخرين.
كذلك على فرض تنفيذ هذا السيناريو، فإن الجيش والأجهزة الاستخبارية الأردنية سيواجهون جملة من المخاطر الخطيرة وغير المتوقعة والحساسة التي قد تنعكس داخليًا وخارجيًا. أولى هذه المخاطر أن تتحول المهمة إلى استنزاف طويل الأمد في تضاريس جبلية وعشائرية معقدة، حيث لا خطوط واضحة ولا حلفاء موثوقين. ثانيًا، احتمال اندلاع مواجهة داخلية بين الدروز أنفسهم، مما قد يُحرج الأردن سياسيًا ويضعه في موقع الطرف المنحاز لطرف محلي ضد آخر في بيئة شديدة الحساسية.
كما أن هناك خطرًا كبيرًا يتمثل في فتح جبهات أمنية جديدة على الحدود الأردنية–السورية، نتيجة ردود فعل من ميليشيات مدعومة من إيران، أو من خلايا تنظيم داعش، أو حتى من إسرائيل نفسها، التي تملك موطئ قدم مهم جنوب سوريا، وقد تستغل الفوضى الناتجة لضرب الداخل الأردني.
أما على المستوى الاستخباري، فتتجلى أمام الأردن واحدة من أعقد البيئات الأمنية وأكثرها تداخلًا وتشظّيًا في المنطقة. جنوب سوريا – وتحديدًا السويداء ودرعا – والذي بات فعليا مسرحًا مفتوحًا لصراعات استخبارية متعددة الجنسيات، تتقاطع فيها الأجندات وتتنازع فيها الغايات والأهداف ، ما يجعل أي دخول أردني إلى هذا الحقل شديد الحساسية سيكون بمثابة المغامرة غير المحسوبة، والمفتوحة على مخاطر كبرى .
الخطر الأول يتمثل في التصادم غير المباشر مع شبكات استخباراتية أجنبية تنشط بهدوء ودقة في المنطقة. فإيران، عبر خلاياها الشبحية وما تبقى من وكلائها المحليين، تسعى لإعادة تموضعها في الجنوب؛ بينما إسرائيل تُحكم قبضتها عبر أدوات بشرية وتقنية وتنفيذ عمليات نوعية دقيقة ضد كل ما يهدد أمنها من المحور الإيراني أو من القوى المحلية غير المنضبطة. في حين أن الأميركيين يحتفظون بقنوات تنسيق أمنية هادئة ولكن فاعلة، ويتقاطعون أحيانًا مع الأجندة الإسرائيلية، ويُراقبون كل تفصيلة ميدانية عبر وسائط تجسسية معقدة. الدخول الأردني ضمن هذا المشهد المزدحم قد يضعه في موقع اللاعب المكشوف وسط متاهة أجهزة تعمل فوق الأرض وتحتها، وقد يُوظَّف كطرف دون علمه أو رغم عنه في ترتيبات إقليمية تتناقض مع مصالحه الوطنية العليا.
الخطر الثاني لا يقلّ خطورة، وهو التعرّض لحملات تضليل ممنهجة، عبر ضخ تقارير أمنية مغلوطة أو تسريبات مضللة تستهدف تشويش القرار الأردني، ودفعه نحو خيارات ميدانية خاطئة. وقد تلجأ بعض الأطراف الفاعلة إلى صناعة مشهدية استخبارية مزيفة تُوهم بوجود تهديد عاجل، أو تُضلل الجيش الأردني بخصوص ولاءات الأطراف المحلية، أو تُخفي نوايا لاعبين خفيين بانتظار لحظة الانقضاض. هذا النوع من التضليل المعلوماتي قد يكون فادح التأثير، إذا لم يقابله وعي استخباري أردني استباقي وتنسيق عالي المستوى مع حلفاء موثوقين.
أما الخطر الثالث، فهو احتمالية اختراق المنظومة الأردنية نفسها، سواء عبر تسريبات تقنية لبيانات ميدانية حساسة، أو اختراقات بشرية تستهدف عناصر الاتصال أو التنسيق أو التخطيط. وفي ظل بيئة عمليات فوضوية، ومع توسع التدخلات على الأرض، يبقى احتمال تسرب معلومات استراتيجية – لا قدّر الله – قائمًا، ما يُعرّض أمن الأردن ومؤسساته لتهديدات مباشرة أو لابتزاز استخباري لاحق.
الخطر الرابع يُلامس جوهر التعقيد السوري: فقدان السيطرة على شبكة التحالفات المحلية. فمن الصعب – إن لم يكن مستحيلًا – ضمان ثبات ولاءات المجموعات السورية على الأرض، خاصة في بيئة تتعدد فيها المرجعيات والانتماءات. بعض هذه الأطراف قد تُظهر تعاونًا علنيًا مع الأردن، لكنها تحتفظ بخيوط سرية مع قوى معادية أو منافسة. أي انفلات في هذه الشبكة الهشة قد يُحوّل الحلفاء إلى خصوم ظرفيين، أو يُفجّر خطوط التنسيق في لحظة حرجة.
لكن الزاوية الأخطر تكمن في الخطر الخامس المتمثل باستغلال النشاط الاستخباري الأردني سياسيًا وإعلاميًا من قبل الخصوم. إذ قد تلجأ جهات معادية إلى تسريب معلومات مجتزأة أو مفبركة، تُظهر الأردن كطرف متورط في عمليات تجسس أو اغتيالات أو قمع ضد مكوّن محلي، خاصة الطائفة الدرزية، والذي قد تقوم بتنفيذه استخبارات اقليمية ،هو ما يُناقض تمامًا سياسات الدولة الأردنية. مثل هذا التصوير – حتى وإن كان زائفًا – قد يوجّه ضربة قاسية إلى سمعة الأردن و أجهزته، ويُعطي خصومه المبرر لفتح جبهات إعلامية وأمنية ضده، بل وربما تحريض مجتمعات محلية أو أطراف دولية على تشويه صورتها .
من زاوية داخلية، فإن دخول الجيش الأردني في هذا النوع من الصراعات سيُنذر بانقسام اجتماعي وسياسي داخلي، إذ سيطرح الشارع تساؤلات عن جدوى الزج بالقوات المسلحة في معركة كان الأولى أن تكون وفق مظلة وترتيبات إقليمية عربية بالأساس، خاصة في ظل وضع اقتصادي مأزوم، وجبهة شمالية هشّة، وحدود ملتهبة مع العراق والضفة وغزة والملف الإيراني، والمخططات الجهنمية الإسرائيلية... كما أن احتمالات ارتداد المواجهة إلى الداخل الأردني عبر الخلايا النائمة أو التهريب، خاصة السلاح، تبقى قائمة، خصوصًا إذا ما وظّفت إسرائيل جهدها ومخططاته الخبيثة بهذا الاتجاه، بما يُهدد الاستقرار الأمني والاجتماعي.
أما من زاوية الحساب الإقليمي، فإن مباركة أميركا وتركيا لهذا التدخل قد تكون تكتيكية ومؤقتة، وليست ضمانة مستدامة، مما قد يُبقي الأردن وحيداً في وحل السويداء، يخرج منها متعباً وضعيفاً ومعرّضاً للارتداد الأمني الداخلي.
هل يُمكن أن يحقق الأردن من هذا التدخل ربحًا سياسيًا؟ نعم، إذا ما تحولت العملية إلى نموذج ناجح للردع الإقليمي المشترك، وكبح التهريب والتسلل، وإعادة بناء الحزام الأمني جنوب سوريا. لكن الخطر الأكبر أن يتحول الأردن من ضامن للهدنة إلى طرف مباشر في صراع أهلي مفتوح لا نهاية له، يُنهك مؤسساته، ويستنزف جيشه وأجهزته الاستخبارية، ويُغري الخصوم بفتح جبهات أخرى ضده.