"ذهب المستقبل في الجنوب السوري: الليثيوم وثروات السويداء تحت أعين إسرائيل"
د. نبيل العتوم
بينما ينشغل العالم بتداعيات الانهيار السوري وانسحاب القوى الإقليمية من المشهد، يتسلل سباق جديد وأكثر هدوءًا نحو عمق الجنوب السوري، حيث تتركز ثروات ظلت لسنوات مدفونة خلف الصراع والنسيان. فمحافظتا السويداء ودرعا، رغم كونهما هامشيتين في خرائط الحرب الكبرى، تملكان اليوم ما يمكن أن يُعيد رسم معادلات النفوذ في المنطقة: ثروات طبيعية نادرة، تتقدمها واحدة من أهم موارد القرن الحادي والعشرين – الليثيوم.
في السويداء، الجبال البازلتية التي شكلتها الحمم البركانية القديمة تخفي تحتها مفاجآت جيولوجية، تزداد أهميتها مع تصاعد الطلب العالمي على هذا المعدن الحيوي. الليثيوم، المستخدم في البطاريات المتقدمة وصناعات الطاقة النظيفة والسيارات الكهربائية، بات وقود الثورة الصناعية الجديدة، ومعه أصبح الصراع على مكامنه صراعًا على النفوذ الاقتصادي والتقني. تقارير جيولوجية قديمة وأخرى حديثة أشارت إلى وجود مؤشرات واعدة لمكامن الليثيوم والمعادن النادرة في أطراف البادية الجنوبية، وتحديدًا بين خربة الدبسي والزلفي وتخوم السويداء الشرقية.
هذا الاكتشاف المحتمل لم يمر دون انتباه. إسرائيل، التي تعتبر الجنوب السوري عمقًا أمنيا استراتيجيا منذ عقود، بدأت تتابع باهتمام متزايد هذا الملف، ليس فقط من زاوية التهديدات العسكرية، بل من منظور اقتصادي واستراتيجي جديد. تسريبات وتقارير غربية ألمحت إلى أن وحدات استطلاع إسرائيلية، باستخدام طائرات مسيّرة وخرائط طبوغرافية متقدمة، تعمل بصمت على تقييم إمكانات المنطقة، مع محاولات غير مباشرة لفتح قنوات مع بعض القوى المحلية. الغاية ليست خفية: تأمين النفوذ على ما قد يتحول إلى كنز اقتصادي وجيواستراتيجي بالغ الأهمية.
تكمن الخطورة في تلاقي الجغرافيا مع الموارد. فالسويداء، بحكم موقعها المتاخم للجولان والأردن، يمكن أن تتحول إلى نقطة وصل في مشروع نفوذ يمتد من إسرائيل إلى عمق البادية، خصوصًا في حال جرى استثمار الثروات بغطاء أمني أو عبر شراكات دولية مشبوهة. كما أن وجود المياه الجوفية ومخزون الفوسفات واليورانيوم والمعادن الأخرى يزيد من أهمية الجنوب، ويفتح الباب أمام مشاريع تطبيع اقتصادي تدريجي تُمرر تحت مسمى التنمية والاستقرار المحلي.
بالنسبة للأردن، فإن هذا التطور يضعه أمام خطر مزدوج: اقتصادي وأمني. فالمياه الجوفية التي يتقاسمها مع الجنوب السوري، والأراضي الزراعية الخصبة، كلها مهددة بأن تقع تحت نفوذ جديد يعيد تشكيل التوازنات الحدودية. أما على المستوى السوري، فإن السيطرة الإسرائيلية أو حتى نفوذها غير المباشر على ثروات الجنوب، تعني تفكيكًا إضافيًا للجغرافيا السورية، وتحويل السويداء ودرعا إلى مناطق شبه مستقلة اقتصاديًا وربما سياسيًا في المستقبل.
ما يجري اليوم في الجنوب السوري ليس مجرد فوضى محلية، بل سباق استراتيجي صامت على الثروة. إسرائيل لم تعد تنظر إلى هذه البقعة باعتبارها مجرد ساحة أمنية يجب تحييدها، بل كمورد محتمل سيمنحها الأفضلية في عالم يتغير بسرعة نحو الطاقة النظيفة والبطاريات الذكية. السويداء، بليثيومها المفترض وثرواتها المنسية،؛ خاصة اليورانيوم تتحول بهدوء إلى بؤرة تنافس إقليمي محموم، وقد تكون في السنوات القادمة مفتاحًا لصراعات جديدة لا تُخاض بالدبابات، بل بالخرائط الجيولوجية وأسهم شركات التعدين.
إنه زمن الليثيوم، وزمن من يملك الأرض... ومن يتقن قراءة ما في باطنها.