المحاريق يكتب: سوريا وأزمة الطوائف والمذاهب… السؤال الإجباري والكبير

 

سامح المحاريق

ظهر ثلاث قيادات درزية في المرحلة الأخيرة، التي شهدت التوترات بين السلطة في دمشق والأقلية الدرزية في جنوب البلاد، ويمكن القول إن مواقف مشايخ العقل يوسف جربوع (المهادن) وحمود الحناوي (الوسطي) وحكمت الهجري (المتطرف) تمثل المواقف التي تتخذ عادةً داخل بنية الأقليات، إلا أن التركيز ينصب على الهجري، الذي يعتبر رجل إسرائيل وداعية التدخل الدولي لحماية الطائفة الدرزية التي عبرت بصراعات كثيرة مشابهة، ولم تكن بحاجة لهذه التدخلات، واستطاعت أن تحافظ على وجودها حتى في مرحلة تشكلها المبكر ضد الفاطميين، وأمام حملات العثمانيين العسكرية.
الأحداث الجارية تدور بين الدروز والقبائل البدوية، وتاريخيا لا يتبادل الطرفان المشاعر الطيبة، فطالما وجد الريفيون الدروز في القبائل البدوية كيانات تهدد موارد عيشهم، ولأنهم يتشكلون حول نواة طائفية صلبة تستشعر التهديد الدائم، فإن ردود فعلهم كانت أكثر شراسة من الريفيين من مسيحيين وسنة، وكثيرا ما قارعوا القبائل البدوية، وكان لرحالة مثل غيرتورد بيل التي توصف بصانعة الملوك في الشرق العربي، أن تلاحظ ذلك بوضوح أثناء رحلاتها في مطلع القرن العشرين، وهي ترى مرافقها البدوي يدعي الخرس، لتجنب أن يعرف مضيفوها من الدروز لهجة قبيلته، التي تقع على قائمة الثأر لديهم.

في سوريا ستبقى المسألة الطائفية مطروحة، وسيبقى المسيحيون يشكلون سؤالا مهما، والأكراد مسألة صعبة، والمفارقة أن نظام الشرع ليس طائفيا بالمعنى المندرج في السياق السوري

يُدفع بالهجري ضمن الاستقطاب القائم حاليا لدى المتابعين العرب، بالصورة التي تلحق الضرر بالطائفة الدرزية ككل، وبصورة غير مسبوقة سوى في نموذجها القائم داخل دولة الاحتلال، التي قامت بهندسة الطائفة بأدواتها الاقتصادية تجاه تطويع معظم أبنائها في منظومتها الخاصة، ويستغل الهجري الصبغة الدينية للنظام الجديد في دمشق ليستثمر في تحقيق كيان مستقل للدروز يمكن أن يسوقه لإسرائيل على أساس أن تشكل الحبل السري لوجوده الاقتصادي، ولا يتشارك معه الدروز في سوريا، ولا في بقية أنحاء العالم، خاصة ممن يرون أن ذلك يمثل انتحارا لطائفة تمتلك تاريخها الخاص ورؤيتها المتفردة لفكرة الدولة، ولديها في سيرتها الذاتية مواقف مشرفة في الثورات الوطنية على مستوى سوريا الكبرى.
بالنسبة لرجل عاش فترة طويلة من حياته بين التجاذبات والانشقاقات مثل الرئيس أحمد الشرع، فما يجري في جنوب سوريا، أمر طبيعي إن لم يكن متوقعا، وهو في مقابلته المبكرة مع الزعيم الدرزي اللبناني وليد جنبلاط، يدفع برغبة في تجاوز الصراعات الطائفية واعتبارها من التاريخ ومنفصلة عن الواقع في ممازحته الذكية: أحداث حصلت قبل 1400 سنة ما علاقتنا نحن بها؟
الخطاب لم يكن يومها موجها للدروز وحدهم، لأن وجودهم يعود إلى ألف عام مضت، ولكن الشرع يطرح هذه المقاربة لكل الطوائف الشيعية التي نشأت بعد حروب الإمام علي ومعاوية بن أبي سفيان، أمام زعيم لأحد أكثر تفرعات الشيعة غلواءً في مواقفهم وتأويلاتهم الدينية، للدرجة التي جعلت مرجعيات إسلامية سنية معتدلة مثل الأزهر تعتبرهم طائفة غير إسلامية. التصريح الدبلوماسي والمنفتح لم يكن كافيا لتهدئة الطوائف في سوريا، فثمة صراع لم يكن واردا تجنبه مع العلويين بسبب محاولات مناصري النظام السابق داخل الطائفة، ووجود طموحات لثورة مضادة تتزعمها وجوه جديدة من داخل الطائفة، وربما من الحلقة المقربة من الأسد نفسه. في بلد متعدد المكونات مثل سوريا ستبقى المسألة الطائفية مطروحة، وسيبقى المسيحيون يشكلون سؤالا مهما، والأكراد مسألة صعبة، والمفارقة الكبرى أن نظام الشرع ليس طائفيا بالمعنى المندرج في السياق السوري، لأنه لا يمثل الطائفة السنية، وهي تحمل مخاوفها الخاصة تجاهه ونسخته التي يقدمها من الإسلام، كما أن جانبا من قوة النظام يتشكل من عناصر غير سورية اندمجت في بنيته لأسباب عقائدية.
الصراع بين الدروز والبدو وهو المألوف، الذي يفترض أنه غير مقلق، يتطلب في مرحلة توثب إسرائيل، أن يدفع النظام بقدراته القتالية لضبط الأمن، وهذه مشكلة بالنسبة للدروز، الذين يرون في ذلك تهديدا وجوديا بوضعهم في مواجهة من يرونهم متطرفين مذهبيا، ولعلهم يتشككون في قدرة الشرع والحلقة الضيقة حوله من السيطرة على مقاتليه، الذين سيبقون مشكلة مفتوحة في سوريا. تكمن مشكلة الرئيس الشرع في قدرته الاستثنائية على إدارة التكتيك، وهو ما أثبته في العلاقة المضطربة مع تنظيم «داعش»، وما زال يحاول أن يطبقه حاليا بالقطعة، إلا أنه لم يقدم إلى اليوم رؤية استراتيجية لمستقبل سوريا. هل كان على سوريا من البداية أن تنشأ بوصفها دولة فيدرالية؟ خاصة أن الرؤية التي قدمت لعلمنة سوريا كانت تعني صراعا طائفيا مبطنا، وتأجيلا لأسئلة كبيرة وخطيرة، وكيف يمكن إدارة علاقات صحية مع بنى طائفية متوطدة في الأرض، ولديها خبرات في إدارة شؤونها مثل الدروز في السويداء، والإسماعيليين في مصياف، والعلويين على الساحل وجباله؟ على رأس الأولويات لدى السلطة في دمشق تفريغ الأزمة في الجنوب من طبيعتها الطائفية والمذهبية، ومن غير ذلك ستتدحرج كرة الثلج وتفرض واقعا كابوسيا يتسارع بأكثر من قدرة النظام في دمشق على إدارة التكتيكات اللازمة من أجل التهدئة والوصول إلى مرحلة من الاستقرار، وربما يخشى البعض من إتاحة الفرصة للنظام ليصل إلى هذه المرحلة، لأنه يضم عناصر تحمل رؤيتها المتطرفة والأحادية والأخروية ويمكن أن تسعى لتعميمها على جميع أنحاء سوريا ومواطنيها كافة.
ما هي الضمانات التي يمكن للرئيس الشرع أن يقدمها للطائفة الدرزية، لعزل الهجري؟ وأي قوى عربية يمكن أن تساعد في تحريك هذه الأزمة تجاه الحل، هل يمكن للأردن التدخل، لدى بعض الأطراف في لبنان مثل جنبلاط؟ خاصة أن الحديث عن فعل عربي مشترك أمر مستبعد تماما في هذه الظروف، وما هي الضمانات التي يمكن أن يقدمها الشرع في المقابل، من أجل المضي قدما تجاه استعادة القناعة بالدولة السورية وقدرتها على استيعاب جميع مواطنيها؟
مئات من الشخصيات السورية يمكن أن تشكل طوقا للنجاة في هذه المرحلة بدخولها في البنية المؤسسية السورية، ولكن يجب أن تفسح لها القوة على الأرض مكانا وأن تقبل بواقع يتجاوز مرجعيتها المذهبية الضيقة، وهذه القوة التي تشكلت منها هيئة تحرير الشام تحتاج إلى مراجعة شاملة، وإلى تحديد لهويتها وأولوياتها، وإلا فإن المحافظة على سوريا واستعادتها ستصبح مسألة مستبعدة مع الوقت.
لن تهدأ سوريا خلال الأشهر المقبلة، وربما تحتاج إلى سنوات، وستكون المعركة الأخيرة داخل النظام نفسه، وبعد أن يستنفد الفاعلية التي أحدثتها قوته الميدانية، التي رافقته من إدلب إلى دمشق أمام المتطلبات المؤسسية لإدارة الدولة، ولكن ما يجب على النظام أن يتحدث به مع القوى الحليفة والشريكة، وحتى مع بعض المتحفظين تجاه وجوده، هو تصوره لسوريا تستطيع البقاء والعودة من جديد وذلك بالسرعة والانفتاح اللازمين، وعدا ذلك، فإنه لا يمكن الحديث عن هدنة مقدمة مجانًا من الدول المتربصة بسوريا، التي ترى الظروف مهيأة بصورة غير مسبوقة لتحقيق اختلال تاريخي يفرغ المنطقة من قدرتها على التماسك وإعادة البناء.
الدروز لا يشكلون سوى جزء من المشكلة، ومحاولة شيطنتهم واحتوائهم بالعصا أو الجزرة ليست كافية، لأن الخريطة الطائفية والعرقية في سوريا هي السؤال الكبير المهمل، الذي تجاوزت عنه دمشق طويلا، وهو السؤال الصعب أمام الرئيس الذي أتى محمولا على أقصى تمثلات الطائفة السنية تطرفا على المستوى العقائدي والفكري.