العتوم يكتب : بغداد على حافة النار: "تفكيك الميليشيات" أو مواجهة سيناريو صنعاء
د.نبيل العتوم
في خضم تصعيد إقليمي غير مسبوق، تنهال على بغداد رسائل أميركية متتالية تحمل تحذيرات صارمة: إما تفكيك الميليشيات الموالية لإيران وتجريدها من سلاحها، أو مواجهة مصير مشابه لما جرى للحوثيين، بكل ما يعنيه ذلك من ضربات عسكرية وعزلة دولية وانهيار أمني محتمل.
المتابع يرى بأن التحرك الأميركي الأخير بقيادة ترامب ضد الحوثيين في اليمن لم يكن مجرد رسالة لتهديد طهران، بل تحذير مبطّن لبغداد، التي تجد نفسها اليوم في دائرة الضوء، بعدما طال صبر واشنطن على الدور التخريبي للميليشيات الشيعية التي تعمل خارج سلطة الدولة، وتمثّل الامتداد الأخطر للحرس الثوري الإيراني بعد ضرب معاقله في سوريا ولبنان.
كذلك تنبىء التطورات ومسارات الأحداث بفرضية انتقال المعركة شمالاً ؛من صعدة إلى بغداد؛ حيث لم يكن اتصال وزير الدفاع الأميركي بيت هيغسيث برئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني مجرد إجراء بروتوكولي، بل إنذار ميداني صريح: "حان وقت الحسم". وبحسب تسريبات دبلوماسية يتم تداولها عبر الإعلام، فإن الرسالة الأمريكية تضمنت تهديداً غير معلن بإمكانية توجيه ضربات استباقية ضد مواقع تابعة لميليشيات "كتائب حزب الله" و"النجباء" وغيرها، إن لم تتحرك بغداد بجدية لوضع حد لهذا التمدد المسلح الذي يهدد أمن القوات الأمريكية، ويعرقل استقرار الدولة العراقية.
وبالتوازي، التوقعات تشير إلى أن العراق قد يكون "المحطة القادمة" في الحرب الأميركية الموسعة ضد وكلاء إيران، خاصة بعد تراجع الدور الإيراني في سوريا، وانكفاء الحوثيين تحت الضربات، ونجاح إسرائيل في تحجيم حزب الله بشكل غير مسبوق، مع بقاء احتمالية شن ضربات مؤثرة واردة بقوة.
المؤكد أن هناك مفاوضات بطيئة بين واشنطن وبغداد، ما يجعل ساعة الصفر تقترب بسبب تلكؤ قادة الميليشيات بتوجيه إيراني مباشر؛ فعلى الرغم من إعلان الحكومة العراقية عن "حوار مستمر" مع الميليشيات لنزع سلاحها، إلا أن غموض تفاصيل هذه المفاوضات وبطء تقدمها، يشيران إلى افتقارها لأي ضمانات جدية. كما أن سلوك الميليشيات لا يعكس نية للتنازل، بل على العكس، فقد تصاعدت الهجمات بالطائرات المسيّرة ضد القواعد الأمريكية في أربيل وعين الأسد خلال الأشهر الأخيرة، في تحدٍ مباشر لإرادة الدولة وللخطوط الحمراء الأميركية.
هذا الجمود في الداخل يقابله تصعيد في الخارج. ترامب، الذي أعلن صراحة أن "زمن الحوثيين قد انتهى"، يسعى لإعادة تعريف قواعد الاشتباك مع إيران، ليس فقط في طهران وصنعاء، بل في بغداد أيضًا. إذ ترى واشنطن أن العراق هو الخاصرة التي تستغلها طهران لبناء ما تبقى من عمق استراتيجي يهدد المصالح الأميركية والإسرائيلية والإقليمية على حد سواء.
أما الاختبار الصعب لرئيس الوزراء العراقي، فبات أكثر تعقيدًا ؛ السوداني يجد نفسه في أصعب اختبار منذ توليه منصبه. فهو محاصر بين نيران الخارج وقيود الداخل و الميليشيات التي دعمته سياسيًا قد تنقلب عليه إذا ما استجاب للضغوط الأميركية، لكنه في المقابل، يدرك أن تجاهل هذه التحذيرات سيضع العراق في مرمى نيران أمريكية – إسرائيلية مباشرة، خاصة إذا اقترنت بهجمات نوعية جديدة ضد قوات التحالف او إسرائيل.
والأسوأ من ذلك، أن استمرار هذا الوضع قد يدفع واشنطن للتغاضي عن "ضربات إسرائيلية جراحية" تستهدف شخصيات وقيادات عسكرية داخل العراق، في تكرار لسيناريو اغتيال قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس.
أمام هذا المشهد، تتزاحم أربعة احتمالات في الأفق العراقي: فالمواجهة المفتوحة تظل احتمالًا مرجحًا، تبدأ بهجمات أمريكية محدودة ضد مواقع الميليشيات وتتسع تدريجيًا على غرار ما حدث في اليمن؛ فيما قد يتمثل السيناريو الثاني عبر الاحتواء المشروط مخرجًا مؤقتًا من خلال تنازلات جزئية تضمن بقاء بعض الفصائل ضمن الدولة دون تفكيك حقيقي لبنيتها الأيديولوجية؛ أما السيناريو الثالث فينذر بانهيار صامت إذا استمرت بغداد في التلكؤ، بما يفتح الباب أمام انسحاب أمريكي تدريجي وفوضى داخلية مدمرة؛ لكن السيناريو الرابع، وإن ظل في الظل، قد يكون الأكثر جذرية، ويتمثل في انقلاب عسكري بدعم أميركي، يعيد تشكيل النظام بالقوة إذا ما فشلت كل الوسائل السياسية والأمنية في فرض هيبة الدولة على الرغم من خطورته .
في المحصلة، لم تعد قضية الميليشيات في العراق مسألة أمن داخلي فحسب، بل أصبحت ورقة اختبار لإعادة رسم النفوذ الإيراني في المنطقة. والرسالة الأميركية واضحة: من لا يحسم خيار الدولة اليوم، سيجد نفسه غداً في مهب عاصفة إقليمية لا تبقي ولا تذر.
فهل يُحسن العراق التقاط الإشارة قبل أن يُسحب إلى سيناريو "صعدة ثانية"... أم أن "السيناريو الرابع" ينتظر في الظل؟.