العتوم يكتب: "حين تتحول البندقية: من درزي في جيش إسرائيل إلى شيعي في فيلق ولي الفقيه... من يحمي من؟"

 

د.نبيل العتوم

من قلب الجبال التي خرج منها سلطان باشا الأطرش ذات يوم يهتف بالثورة ضد الاستعمار الفرنسي، خرجت أجيال درزية جديدة ترتدي زيًّا عسكريًا يحمل شارة الجيش الإسرائيلي. تحولٌ صادم في الظاهر، لكنه ليس عابرًا في العمق، بل يعكس مأساة الانتماء العربي حين يتآكل تحت وطأة التهميش والخذلان.

عاش الدروز لقرون على هامش صراعات الكيانات الكبرى، محافظين على خصوصيتهم الدينية والثقافية، ومتمسكين بعقيدتهم المنغلقة التي اختارت الانعزال في وجه التبشير والانخراط الطائفي. لكن التاريخ لا يترك أحدًا في الظل. مع انطلاق الثورة السورية الكبرى عام 1925، قاد سلطان الأطرش، أحد أبرز قادة الدروز، واحدة من أشرس حركات المقاومة ضد الاستعمار الفرنسي. كان ذلك ذروة الانصهار بين الانتماء العربي والنضال الوطني. غير أن المشروع العربي نفسه لم يحسن مكافأة من قاتلوا تحت رايته، ولا احتضان من ضحّوا لأجله.

مع استقلال سوريا، لم تتحول السويداء إلى شريك سياسي حقيقي، بل إلى ساحة مراقبة أمنية. وفي لبنان، شارك الدروز في حروب الداخل وتموضعوا في نظام المحاصصة دون أن يشعروا بالاستقرار أو الضمان. في فلسطين والأردن، جُرّدوا من الخصوصية وذُوّبوا في هويات أوسع بلا تمكين حقيقي.

هذا التهميش البنيوي فتح الباب أمام مشروع مضاد، استغلّ الغُبن والفراغ. في إسرائيل، عُزل الدروز عن بقية العرب منذ سنوات الخمسين، وأُجبروا على الخدمة الإلزامية، ووُضعت لهم مناهج تعليمية منفصلة، تُقنع الشاب الدرزي أن جذوره ليست في دمشق أو القدس، بل في "القرى الجبلية الموالية للدولة اليهودية". فصار الجندي الدرزي يقاتل أبناء عمومته العرب على جبهات لبنان وسوريا، بينما يُقدَّم له هذا القتال على أنه "دفاع عن الدولة التي احترمته وأعطته هوية".

لكن إسرائيل لم تكن وحدها في لعبة تغيير وجهة السلاح. إيران، منذ لحظة انتصار ثورتها، أعادت رسم الخريطة الشيعية في العالم العربي. لم تطرح مشروعًا روحيًا ولا حتى قوميًا، بل مشروعًا طائفيًا مسلّحًا، حولت فيه جزءا من الشيعة العرب من مكوّنات وطنية إلى أدوات إقليمية. فكما قاتل الدرزي في صفوف جيش الاحتلال، قاتل الشيعي العربي تحت راية الحرس الثوري، ليس دفاعًا عن بلده، بل تنفيذًا لأجندة تتجاوز الحدود.

البندقية الدرزية وُجّهت إلى العرب باسم الولاء للدولة. والبندقية الشيعية وُجّهت إلى العرب باسم المقاومة للعدو. لكن النتيجة واحدة: مزيد من الدم العربي المسفوك، ومزيد من التفكك في الجغرافيا والانتماء. في الحالتين، السلاح عربي، والقتيل عربي، والمستفيد جهة تحترف توظيف المظلومية.

ما يجمع بين المشروع الإسرائيلي والمشروع الإيراني، أنهما استوعبا القلق الطائفي والفجوات السياسية، وملآهما بأدوات ناعمة: التمكين، المال، الاعتراف، والهوية البديلة. أما ما يجمع بين فشل الدول العربية، فهو أنها تركت هؤلاء خارج مشروعها، بلا احتواء ولا مساواة ولا مشروع مستقبلي.

ليس ما حدث بالدروز أو الشيعة قدَرًا، بل نتيجة خيارات. لكنّ اللافت أن التحولات بدأت تتشقّق. في إسرائيل، ترتفع نسب رفض الخدمة العسكرية بين الشباب الدروز، وتُطلق مبادرات لإعادة الاعتبار للهوية العربية. وفي العراق ولبنان واليمن، باتت أصوات شيعية تعلو ضد التبعية الإيرانية، وترفض القتال خارج حدود الأوطان.

إن ارتباط جزءا من الدروز بالجيش الإسرائيلي وبعضا من الشيعة بفيلق ولي الفقيه يعبّر عن تناقض جذري بين الولاء القومي والولاء المذهبي، فإن الولاء المذهبي لم ينتظر طويلاً حتى يغلب الولاء الوطني، خصوصًا مع تدخل إيران التي نجحت في اختراق هذا البُعد ، وقدمت نفسها كحامية وممثل حقيقي لمصالح الشيعة في المنطقة. بالمثل، حاولت إسرائيل أن تستثمر الفراغ الذي خلّفه التهميش العربي للدروز، فأنشأت لهم هوية منفصلة ودعمت ولاءهم للدولة العبرية، ما أدى إلى تحوّلهم من مقاوِمين للاحتلال إلى جنود في جيشه. هذا الانقسام لا يعكس فقط إخفاقًا في بناء مشروع عربي جامع، بل يكشف عن هشاشة الهوية الوطنية حين تُترك الجماعات للمزايدات الطائفية والاستقطاب الخارجي، ويتم تنصيب قيادات ومرجعيات تتاجر بالمذهب وتتربح  به على حساب الوطن وأهله، الأمر الذي أفرغ المشروع القومي من جوهره وأصبح أداة لتفتيت الأمة وتوجيه سلاحها ضد ذاتها.