الأردن في مأزق أمني

 

د. نبيل العتوم

ما يجري في السويداء منذ الأول من أمس واليوم ليس مجرد جولة جديدة من الاشتباكات أو تصعيد عَرَضي بين إسرائيل والدولة السورية، بل تطور نوعي في بنية المشهد الأمني في جنوب سوريا، قد يفرض وقائع ميدانية شديدة التأثير على البيئة العسكرية والاستخبارية والاستراتيجية المحاذية للأردن. فالمنطقة الواقعة بين درعا والسويداء كانت لسنوات بمثابة "المنطقة العازلة الصامتة" التي سمحت لعمان بتطبيق قواعد اشتباك مرنة ومنضبطة، مكنتها من مواجهة تهريب السلاح والمخدرات والحد من اختراقات المليشيات الإيرانية والتنظيمات المتطرفة. لكن مع هذا الانفجار المفاجئ للتوتر، وتورط مباشر لإسرائيل بقصف مراكز تابعة للدولة السورية، وانخراط قوات درزية محلية في الصراع، باتت هذه المعادلة مهددة بالتفكك الكامل.

عسكريًا، يُظهر الدفع الإسرائيلي لقوات من الجيش - كما يظهر في الأخبار والصور العاجلة التي تظهر بكثافة على الشاشات - نحو الحدود مع سوريا أن تل أبيب لا تتعامل مع التطورات كعملية محدودة أو رد فعل على تهديد مباشر، بل تتعامل معها كبداية لمرحلة عسكرية طويلة الأمد قد تشمل تطهيرًا للمجال الجوي في جنوب سوريا، وفرض قواعد اشتباك جديدة، وربما بناء شريط أمني على غرار "جيش لحد" في جنوب لبنان سابقًا، لكن هذه المرة بغطاء درزي.

من منظور عسكري أردني، هذا يشكل تهديدًا مباشرًا ليس فقط لاحتمالات الاشتباك غير المقصود، بل لمنظومة الردع والجاهزية على الحدود الشمالية، خاصة أن الجيش الأردني سيواجه بيئة عملياتية تتضمن تدخلات جوية إسرائيلية - وهو ما يجري فعليًا - حشودًا محلية مسلحة على بُعد أقل من 30 كم من حدوده الجغرافية، واحتمالات لتغلغل مجموعات غير منضبطة أمنيًا ضمن سيناريو فوضى الجنوب السوري.

استخباريًا، تمثل السويداء منطقة معقدة للغاية بالنسبة للأجهزة الاستخبارية الأردنية. فعلى عكس درعا، لا تخضع السويداء لهيمنة فصيل مسلح واحد، بل تضم مزيجًا من مليشيات محلية، وشبكات درزية مسلحة مستقلة نسبيًا، ومتنفذين محليين على ارتباط بعواصم إقليمية مختلفة. التورط الإسرائيلي في دعم بعض هذه المجموعات – سواء عسكريًا أو لوجستيًا أو استخباريًا – سيقلل من قدرة الأجهزة الاستخبارية الأردنية على مراقبة وتفكيك شبكات التهريب والتنظيمات المتسللة عبر البادية الشرقية. كما أن عبور عشرات الدروز من إسرائيل إلى سوريا كما شاهدنا على وسائل الإعلام قبل قليل - يفتح الباب أمام استخدام تلك المعابر لا فقط كنقاط ضغط ديموغرافي، بل كنقاط تجسس وزرع اختراقات بشرية داخل العمق السوري، الأمر الذي سيجعل من السويداء بؤرة تجسس مزدوجة (إسرائيلية وما تبقى من خلايا إيرانية)، تكون عمّان إحدى ضحاياها الجانبية إن لم تُسارع إلى التحصين الاستخباري العميق.

استراتيجيًا، فإن التغيير البنيوي في وضع الجنوب السوري يهدد بتحطيم أحد الخطوط الحمراء الأردنية غير المُعلنة: إبقاء جغرافيا جنوب سوريا موحدة، مضبوطة، وخالية من قوى أجنبية متصارعة. وإذا تحولت السويداء إلى كيان شبه مستقل، أو إلى منطقة حظر جوي غير معلن ترعاه إسرائيل، فهذا يعني أن الأردن سيتعامل عمليًا مع كيانين شمال حدوده: السويداء درزية تحت حماية إسرائيلية، ودرعا المهشمة تحت نفوذ متداخل لما تبقى لروسيا وإيران – أمني سوري، ما سيحول حدوده الشمالية من "حزام أمن استراتيجي" إلى "سلسلة جبهات كامنة"، يصعب التنبؤ بتحركاتها.

الأكثر خطورة أن الحضور الإسرائيلي العلني في الجنوب سيُغري قوى أخرى – أو أطراف كردية أو حتى بقايا داعش – بالتحرك في اتجاه الجنوب تحت ستار "التوازن مع النفوذ الإسرائيلي"، ما يعني فتح الجنوب على مصراعيه لصراع متعدد الأطراف قد يمتد إلى العمق الأردني في لحظة ارتباك.

أمام هذا المشهد، تجد الدولة الأردنية نفسها أمام مأزق أمني: هل تكتفي بالمراقبة والتحصين الدفاعي، أم تتحرك دبلوماسيًا وأمنيًا لمنع تقنين الواقع الجديد؟ أي تقاعس أو تأخير في بناء حزام أمني أردني – بالتفاهم مع دمشق وواشنطن – سيجعل المملكة تتعامل قريبًا مع جنوب سوري خارج السيطرة بالكامل. من هنا، فإن الرهان الأردني يجب أن يكون على تفاهم ثلاثي أردني - سوري - أميركي لفرض حد أدنى من الاستقرار ومنع بروز "السويداء الجديدة" ككيان حليف لتل أبيب على مرمى حجر من الأزرق والرمثا والشمال والشرق الأردني.