العتوم يكتب : الحرب في الشرق الأوسط لم تبدأ بعد

 

د. نبيل العتوم

في لقاء جمعني قبل أيام قليلة على إحدى الفضائيات العربية المرموقة  مع مسؤول سابق في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية   وخلال حديث تحليلي مطوّل حول المشهد الإقليمي واحتمالات اندلاع مواجهة شاملة بين إسرائيل وإيران، او استهداف جديد لحزب الله اللبناني او الحوثي اوالحشد الشعبي قال الضيف جملة توقفت عندها كثيرًا: "الحرب في الشرق الأوسط لم تبدأ بعد". بدا تصريحه غريبًا للوهلة الأولى، خاصة في ظل ما تشهده المنطقة من أحداث كبرى، لكنه في العمق كان توصيفًا بالغ الدقة للواقع المتفجر الذي يعيشه الشرق الأوسط.

فما نشهده اليوم من عمليات نوعية وضربات مدمرة لم يُترجم بعد إلى الحرب الشاملة التي يخشاها الجميع. إيران تعرّضت في الأسابيع الأخيرة لضربات مركزة طالت منشآتها النووية الحساسة في فوردو ونطنز وأصفهان، وتم توجيه ضربات مدمّرة لأنظمة دفاعها الجوي، وتصفية 22 من أبرز قادة الصف الأول في مؤسساتها العسكرية والأمنية. هذه العمليات لم تكن رمزية، بل كانت رسائل نارية تلامس صميم مراكز القرار والنفوذ داخل النظام الإيراني.

في المقابل، تلقى حزب الله في لبنان ضربات موجعة أدّت إلى تصفية قادة بارزين من الصف الأول، وتكبّد خسائر بشرية قُدّرت بأكثر من 400 من كوادره العسكرية والأمنية، في استهدافات دقيقة ضربت العمق التنظيمي للحزب. أما الحوثيون في اليمن، فقد تعرّضوا لضربات نوعية دمّرت موانئ استراتيجية تُستخدم في تهريب السلاح والطائرات المسيّرة، مما تسبب في ارتباك واضح داخل بنيتهم العسكرية، وتراجع زخمهم الميداني في عدة محاور.

ورغم كل هذه التطورات، لا تزال الحرب الكاملة مؤجلة. إسرائيل تمضي في استراتيجيتها القائمة على الضربات المركزة دون أن تتورّط في مواجهة شاملة، وإيران تمتص الضربات وتعيد التموضع دون أن تُقدم على ردّ شامل يقلب الموازين. حزب الله بات عاجزا عن الرد ولو  موضعيًا خشية من تدميره بالكامل، والحوثيون يناورون في إطار ضيق تحت ضغط الضربات الجوية والخسائر المتلاحقة.

هذه المرحلة تُشبه إلى حد كبير ما يُعرف في الأدبيات الاستراتيجية بـ"المنطقة الرمادية"، حيث تسود المواجهة من دون إعلان رسمي للحرب، وتُستخدم كل أدوات الضغط دون الوصول إلى النقطة الحرجة التي تعني الانفجار الشامل. وهنا تكمن خطورة اللحظة: لأن الجميع يتصرّف وكأن الحرب واقعة حتمًا، لكن لا أحد يريد أن يكون البادئ بها.

العبارة التي قالها مسؤول السي آي إيه السابق لم تكن مجرد تحليل بل تحذير ضمني من أن ما يجري، رغم ضخامته، لا يزال في نظر القوى الكبرى مجرّد "مرحلة ما قبل الحرب". والمخيف أن هذه المرحلة قد تطول، أو قد تنقلب في لحظة واحدة إلى مواجهة شاملة تغير شكل المنطقة، وتُعيد رسم توازنات القوة والسيطرة لعقود قادمة.

نحن نعيش إذًا بين دويّ الانفجارات وهدير الاحتمالات، في مساحة رمادية تفصل بين الحرب والسلام. لكن الحقيقة المؤكدة أن الحرب، التي لم تبدأ بعد، تقترب أكثر مما يتصور كثيرون.