العتوم يكتب: تشكيلة مجلس النواب الأردني: قائمة التمثيل الأقل حظا
د. نبيل العتوم
في كل دورة انتخابية جديدة، يعود إلى الواجهة مشهد تركيب مجلس النواب الأردني، وما يحمله من تكرار في الأنماط والمناطق والولاءات. ومع تكرار المشهد، يتعمق لدى المواطن شعور بأن العملية الانتخابية، ورغم مظاهرها الديمقراطية، خاضعة لحسابات عميقة لا تفرز برلمانًا تمثيليًا فعليًا بقدر ما تنتج بنية سياسية مرسومة بدقة، تشبه في منطقها ما يُعرف بـ"قائمة الأقل حظًا" في القبول الجامعي.
تمامًا كما تقوم الدولة بتخصيص مقاعد جامعية لأبناء المناطق الفقيرة والمهمشة ضمن سياسة "التمييز الإيجابي"، فإنها تمارس شكلاً شبيهًا في السياسة: تمنح تمثيلًا نيابيًا لأبناء المحافظات الطرفية والمجتمعات الريفية والمخيمات والأوساط الفقيرة، ليس فقط بدافع العدالة الاجتماعية، بل لأهداف استراتيجية مزدوجة؛ إذ أن هذه الفئات، الأقل تنظيمًا سياسيًا والأبعد عن مراكز القوة الاقتصادية، تكون أكثر قابلية للضبط، وأسهل في احتوائها ضمن هندسة برلمانية لا تسمح بظهور قوى معارضة منظمة أو طبقة سياسية جديدة تُهدد التوازن القائم.
هكذا يصبح البرلمان، في جزء منه، انعكاسًا لـ"توازن تعويضي": تمنح الدولة للمهمشين فرصة التمثيل الشعبي، مقابل أن تحتكر هي تعيين النخب في السلطة التنفيذية من قائمتها المغلقة، وتضمن بقاء الخيوط الحقيقية للقرار في يدها. وهنا يتحول مجلس النواب إلى أداة تفريغ شعبي لا أداة مساءلة حقيقية، ويتحول التمثيل إلى شكل بلا مضمون، يتيح للحكومة أن تقول: "لدينا ديمقراطية"، دون أن يسمح بأن تنتج هذه الديمقراطية تهديدًا للنخبة التقليدية ، ولتوجهات السياسة العامة على الصعيدين الداخلي والخارجي.
هذا النمط من الضبط السياسي ينتمي لما يُعرف بـ"الديمقراطية المُدارة"، حيث تُفتح صناديق الاقتراع، لكن تُغلق النتيجة مسبقًا عبر هندسة دوائر انتخابية غير متوازنة، والزج باحزاب انابيب تم تخصيبها على عجل ، وتشجيع التمثيل الفردي والعشائري، هذا عدا عن تكريس الخطاب الخدماتي الضيق. والنتيجة هي برلمان من أفراد لا من كتل، ومن أُناس جاءوا لتمثيل مناطقهم وعشائرهم لا لصياغة سياسة وطنية، ما يجعله فاقدًا للقوة التأثيرية، حتى وهو يمارس بعض مظاهر الرقابة أو المعارضة الشكلية 'التي يمكن وصفها بالظاهرة الصوتية ليس الا .
إن تشبيه تركيبة مجلس النواب بقائمة الأقل حظًا لا ينتقص من أفراده بقدر ما يُسلّط الضوء على المنطق الذي أنتجهم: الدولة تريد شعبًا ممثلًا ولكن غير مؤثر، وممثلين يرضون الناس رمزيًا دون أن يقتربوا من صناعة القرار الحقيقي. وهذا ما يفسر لماذا لا تُفتح الأبواب أمام شخصيات سياسية ذات ثقل فكري أو شعبي كبير، أو قادة رأي مستقلين، بل يُفتح المجال أمام أبناء مناطق فقيرة، أو عشائر كبرى، أو وجوه خدماتية لا تُقلق الحكومات المتعاقبة على المشهد السياسي العام .
من الناحية الأمنية، يشكل هذا البرلمان خط أمان مبكر، لا منصة معارضة. فبدل أن تُترك الساحة الشعبية للفراغ السياسي أو الاختراق الخارجي، تُملأ بتمثيل مضبوط لمجموعات يمكن فهمها وإدارتها، وبالتالي تُفرغ الطاقة الاحتجاجية في قنوات معروفة. هذه الصيغة خففت من الاحتقان الشعبي لعقود، لكنها باتت اليوم على المحك، مع اتساع الفجوة بين البرلمان الحقيقي والمتخيل، وازدياد الوعي المجتمعي بأن التمثيل لا يُغير السياسات، وأن المعارضة النيابية، مهما ارتفعت لهجتها، لا تمس بنية القرار الفعلي.
وفي العمق، فإن بقاء الدولة رهينة هذه الثنائية – برلمان فقير بالكفاءات مقابل حكومة مغلقة – يؤدي إلى شلل تدريجي في التجديد السياسي. فلا النواب يستطيعون تقديم بدائل، ولا الحكومة تسمح بفتح القائمة المغلقة، ولا الشعب يرى من يمثله فعلًا في الحُكم. وبهذا المعنى، فإن مجلس النواب، كما هو اليوم، لا يُنتج شرعية مستدامة، بل شرعية مؤقتة وظيفتها تهدئة الاحتقان وتمرير السياسات.
الخطر الأكبر أن تستمر الدولة في هذا المسار دون مراجعة، فتتحول الفجوة بين الناس ومؤسسات الحكم إلى وادٍ لا يُجسر بالتمثيل الرمزي، ولا تُعالجه عمليات التجميل السياسي. المطلوب اليوم ليس فقط تمثيلًا أوسع للمهمشين، بل تحريرهم من أن يكونوا مجرد ديكور لحكومات تريد أن تبدو ديمقراطية دون أن يكون كذلك فعلًا.