الدولة الأردنية وقائمة الأسماء المغلقة: بين مطرقة التدوير وسندان الهندسة الأمنية
د. نبيل العتوم
تثير طريقة إدارة الدولة الأردنية تساؤلات متجددة ومثيرة حول طبيعة النخبة الحاكمة و اللغز حول آلية تداول المواقع والمسؤوليات، ففي مشهد تتكرر فيه الأسماء ذاتها في المواقع الرسمية الحساسة، يبدو أن الحديث عن تداول السلطة أو ضخ دماء جديدة بات أقرب إلى الطرح النظري منه إلى الواقع. لا تبدو "قائمة الأسماء المغلقة" ظاهرة إدارية عابرة أو محصورة بقصور في إنتاج النخب، بل هي انعكاس لمنهج مستقر في إدارة الحكم، يستند إلى ما يمكن تسميته بهندسة الثقة الأمنية داخل دوائر القرار العليا، حيث تُنتج الدولة رجالها من دائرة ضيقة اختُبر ولاؤهم، واستُهلكت قدراتهم في مواقع متعددة، ثم يُعاد تدويرهم في مواقع- بالمناسبة قد لا يكون لهم في بعض الاحيان اية علاقة بالموقع لا من قريب أو بعيد - عند كل مفترق خطر أو تغير سياسي أو أمني.
ما يبدو ظاهريًا كتدوير للكفاءات، يخفي في عمقه نمطًا محكمًا من انتقاء لا يقوم على الكفاءة بالضرورة، بل على القدرة على الالتزام الصارم بالخطوط الحمراء، وعدم تجاوز المساحات المرسومة، والانخراط في منظومة طيّعة توازن بين السلطة والظل. الشخص الذي يُقال اليوم قد يُعاد تكليفه غدًا بذات المنصب أو بإدارة المؤسسة ذاتها اوغيرها، تحت عنوان "مؤقت"، فيما الحقيقة. ان عودته هي جزء من صفقة محسوبة سلفًا داخل شبكة القرار، والتي ترى في هذا الشخص ضمانة استمرارية لا مفاجأة تغيير. البعد الأمني في هذا المشهد مركزي وأساسي، فالمناصب في الدولة ليست مجرد أدوات تنفيذية، بل تمثل نقاط ارتكاز أمنية حساسة، يجب أن يشغلها شخص "مضمون" أمنيًا، مجرب في اللحظات الحرجة، وقابل للتوجيه دون مقاومة، ولا يمتلك طموحًا شخصيًا مقلقًا.
في الدولة الأردنية، تتشابك ثلاثة محاور في إنتاج النخبة: المؤسسة الأمنية، القصر والرغبة في التغيير ، والبيروقراطية العميقة التي تتحفظ عليه، وفي كل محور يجري تقييم الشخصيات وفق اختبارات غير معلنة، تتعلق بالسرية والامتثال والمرونة والانضباط، وليس بالضرورة برؤية تطويرية أو قدرة إصلاحية. وعلى ضوء هذه المعايير، تُغلق القائمة على نفسها، فلا يُسمح بالولوج إليها إلا بعد اجتياز مراحل غير مرئية، غالبًا ما تكون محصورة داخل غرف ضيقة. وهذا ما يفسر عودة أسماء أقصيت سابقًا، بل وأحيانًا حوصرت شعبيًا، لتتولى إدارة ذات الملفات، وكأن الدولة تسير في دائرة مغلقة تخشى الخروج منها نحو المجهول.
خارجيًا، يُقرأ هذا النمط كرسالة استقرار، مفادها أن الأردن ليس ساحة مفاجآت، وأن النخبة المتداولة موثوقة، وتقدم للخارج صورة نظام مألوف يسهل التعامل معه. وهذه نقطة تُرضي الحلفاء الغربيين، خصوصًا في فترات التغيرات الإقليمية الكبرى، إذ يفضل هؤلاء أن يتعاملوا مع وجوه مجربة لا تُدخل عناصر غير محسوبة في مشهد معقد أصلًا. لكن ما يُقرأ دوليًا كاستقرار قد يُقرأ داخليًا كجمود، وهذا الجمود يراكم حالة اغتراب مجتمعي متزايدة، ويعزز الانطباع بأن الدولة لا تثق بشعبها، ولا ترى فيه مصدرًا للنخب الجديدة، بل تعيد إنتاج ذاتها بذاتها، فيما الكفاءات الحقيقية تخرج من الخدمة، أو تغادر المشهد العام بهدوء.
إن خطورة هذا النموذج لا تكمن فقط في نتائجه الإدارية الضعيفة، بل في أثره السياسي العميق، إذ أنه يؤسس لانفصال تدريجي بين الدولة ومجتمعها، ويغلق قنوات المشاركة أمام الطاقات الجديدة، ويكرس الشعور بأن المناصب تُوزّع وفق خيوط غير مرئية لا يمكن للعموم الوصول إليها. هذا النوع من الانغلاق قد يبدو مفيدًا في لحظات الخوف أو الارتباك، لكنه غير قابل للاستمرار في ظل الأزمات المتراكمة التي يعيشها الأردن، داخليًا من جهة الضغوط الاقتصادية والاجتماعية، وخارجيًا من جهة التحولات في فلسطين وسوريا ومواقف الإقليم. الدولة التي لا تجد بدائل لأسمائها، تعترف ضمنيًا بأزمتها، وتدفع ثمن التكلس في زمن الانفتاح.
قائمة الأسماء المغلقة ليست مجرد إجراء احترازي، بل هي انعكاس لعقيدة سياسية أمنية ترى في التغيير مخاطرة، وفي المبادرة تهديدًا، وفي الكفاءة عبئًا، وربما مصدر قلق. وبين مطرقة التدوير وسندان الهندسة الأمنية، تُدار الدولة بنخبة ثابتة لا تتغير، ويُطلب من الشعب أن يصدّق بأن الأمور تسير إلى الأفضل. والسؤال الذي لا يمكن تفاديه: إلى متى يُمكن للدولة الأردنية أن تبقى أسيرة هذه القائمة، دون أن تنفجر الأسئلة في وجهها دفعة واحدة؟