الزيود تكتب: الولاء التنظيمي بين شرعية الانضباط والاستيعاب ومزالق الترضية

 

دعاء الزيود

في المشهد الحزبي الأردني الذي بدأ يخوض أولى تجاربه البنيوية، تبرز لحظة الحقيقة: هل التنظيمات السياسية الناشئة تُبنى على التماسك الداخلي والتفكير الاستراتيجي؟ أم على توازنات ظرفية وتفاهمات فوقية هدفها امتصاص السخط المرحلي؟

السؤال ليس نظريًا. هو سؤال مركزي تُجيب عليه الوقائع التنظيمية اليومية، خصوصًا حين تنتقل الأحزاب من طور التأسيس إلى طور الأداء، ومن التعبئة إلى التفعيل، ومن البلاغة السياسية إلى "إدارة التعارض الداخلي".

الانضباط التنظيمي لا يعني التطابق، بل يعني احتواء الاختلاف ضمن إطار فكري مؤسسي، وتوزيع الأدوار على أساس الكفاءة لا الاسترضاء. أما حين تصبح "الهندسة الحزبية" قائمة على ترضيات هيكلية وتركيبات محاصصية هدفها نزع فتيل الغضب المؤجل، فنحن لا نبني حزبًا، بل نُعيد إنتاج منطق التحالفات الانتهازية الذي فرّغ المشهد السياسي من مضمونه طيلة العقود الماضية.

في القراءة السياسية الدقيقة، تتبدى في بعض الأحزاب ملامح ما يمكن تسميته بـ**"عقيدة التوازن الداخلي المؤقت"**، والتي تقوم على تدوير المواقع والمواقع النيابية لا استنادًا إلى مشروع فكري صلب، بل إلى منطق التسكين التنظيمي؛ حيث تُهدّأ الأصوات المتململة بإسناد مقاعد، ويُعاد تشكيل مركز القرار من أجل تقليص حدة التباين لا حله.

ولكن، أين المشكلة في ذلك؟

المشكلة أن هذا المسار يُنتج ولاءً ظرفيًا، هشًّا، يرتبط بالمنصب لا بالرؤية، ويخلق بيئة داخلية يسود فيها "الانتماء الانفعالي" بدلًا من "الالتزام العضوي".

الحزب الذي لا يصوغ لنفسه "عقدًا تنظيميًا صارمًا" – يقوم على فصل السلطات الحزبية، وتوازن العلاقة بين الذراع البرلماني والجسم القيادي، وحماية استقلالية لجانه الرقابية والتنفيذية – سيجد نفسه أمام اختبارات تهدد بنيته لا شعبيته فقط. لأن الحزب الذي يتوسل التماسك عبر توزيع المناصب، سيفقد قدرته على بناء كتلة أيديولوجية صلبة.

في التنظيمات الرشيدة، يُمنح القرار بناءً على تقييم الأداء الحزبي، وليس كردّ فعل على حالة مزاجية داخلية أو حسابات المداورة الشكلية. القيادة لا تُفرز بالمحاباة، بل بالمراكمة؛ و"إعادة التموضع" لا تُدار بلغة العلاقات العامة، بل وفق قراءة حقيقية لموقع الخلل، ومسؤولية التصحيح.

التغيير في المواقع – خصوصًا في الكتل النيابية – ليس عيبًا تنظيميًا. لكنّه يصبح خطرًا حين يُقدَّم بوصفه إنجازًا بينما هو في الحقيقة محاولة لامتصاص أزمة بنيوية صامتة.

من داخل المطبخ الحزبي، يعرف الجميع أن الكارثة لا تكون في الانقسام المعلن، بل في التآكل الصامت. في ظهور ولاءات موازية، ودوائر قرار غير مرئية، وامتدادات فردية تتصرف خارج الإطار الجماعي. هنا تتآكل الأحزاب لا عبر الصراع، بل عبر "التحوّل إلى منصات شخصية"، وممرات للوجاهة السياسية لا محاضن للمشروع.

من لم يستطع تأسيس قاعدة حزبية تعرف لماذا تنتمي، لا كيف تنتخب، سيفقد تماسكه في أول مطبّ داخلي. ومن لم يُنتج "وعيًا تنظيميًا" يعترف بشرعية الاختلاف تحت سقف الحزب، سيفشل في استيعاب التحولات دون أن تنفجر في وجهه.

لهذا، فالاختبار الحاسم ليس: من يقود؟

بل: كيف نُنتج قيادة لا تحكم فقط، بل تنظّم، وتؤطّر، وتبني مشروعًا يتجاوز الأشخاص؟

الحزبية لا تعني كتم الخلافات، بل تأطيرها.

ولا تعني توسيع طاولة القيادة، بل ضبط منطق اختيار من يجلس عليها.

وإلى أن تتبنى الأحزاب هذا الوعي، سنظل نتحدث عن أحزاب، دون أن نرى حزبًا واحدًا.