النقرش يكتب : حين يُصرّ الإعلام على اختلاق عدو وتغييب العدو الحقيقي

 

الدكتور إبراهيم النقرش

رغم إدراكنا لحجم الخلاف العقائدي العميق مع إيران، إلا أن بعض وسائل الإعلام الأردنية تصر على تقديم هذا الخلاف كأنه صراع وجود وعداء سياسي شامل لا تراجع فيه، فتستضيف محللين لا مهمة لهم إلا تسويق الكراهية تجاه إيران وتصويرها على أنها العدو الأول للعرب والمسلمين، بل للعالم أجمع، وهو خطاب (خلط سياسي متعمد) لا يخدم الأردن ولا شعبه ولا قضاياه، بل يصب في مصلحة العدو الصهيوني الذي يتهدد الأردن وفلسطين منذ عقود.

الخلاف العقائدي لا يبرر العداء السياسي المفتعل، ولا يجوز زجّ الأردن في معركة ليست معركته، فإيران لم تحتل أرضًا عربية، ولم تُشرد شعبًا عربيًا، ولم تفرض الحصار، ولم تقصف غزة، ولم تمارس التهديد المباشر للأردن ومقدساته. فكيف نغض الطرف عن كل ما تفعله إسرائيل، ونوجه مدافع الإعلام نحو إيران دون ذكر العدو الفاجر؟ إن افتعال العداء ليس من الحكمة ولا من المصلحة، والتصرف كأن الأردن في مواجهة سياسية وأمنية مع إيران هو عبث لا يليق بحجم الدولة ومكانتها وتاريخها، لا سيما وأن من يشعل هذا الخطاب ليس صانع قرار ولا يمثل رأي الدولة الأردنية الرسمي، بل مجرد أصوات ناطقة باسم مشاريع يُخيَّل أنها خارجية تخدم محاور إقليمية لا تهتم بمصلحة الأردن، بل تستثمر به ليكون واجهة عدائية لإيران خدمة لأجندات خارج الأجندة الأردنية.

لا يمكن تفسير هذا الإصرار على استعداء إيران إعلاميًا إلا بكونه محاولة مدروسة لتحويل الأنظار عن العدو الحقيقي الذي يحتل ويهدد ويقتل ويصادر، ويقضم الأرض شبرًا شبرًا، ويختنق به كل بيت فلسطيني ويشعر به كل بيت أردني.

العدو لا يحتاج إلى تعريف، فمن فعل ما سبق هو إسرائيل لا إيران. ومن يدنس الأقصى ويهدد الوصاية الهاشمية ويعمل ليل نهار على تهويد القدس وتهجير الفلسطينيين هو العدو الصهيوني. أما إيران، فمهما اختلفنا معها، فلم ترسل طائراتها لتقصف مخيمات غزة، ولم تمنع الغذاء والدواء عن أطفالها.

المتابع لتعليقات الأردنيين على هذه البرامج التي تستعدي إيران، يلحظ حجم الوعي الشعبي ورفضه لهذا الانحراف الإعلامي. الأردنيون يعرفون أن قيادتهم تؤمن بأن العدو الأول هو إسرائيل، وهم لا يقبلون أن تُشوّه هذه الحقيقة عبر أبواق التحليل المدفوع أو الغارقة في الجهل وعمى البصيرة.

من غير المنطقي ولا المقبول أن نُشيطن إيران في كل مناسبة، بينما لا نكاد نذكر إسرائيل إلا بخجل أو على استحياء. من المؤسف أن نرى بعض القنوات تفتح ساعات بثها الطويلة لتحليل "خطر إيران"، ولا تخصص عُشر هذا الوقت لتحليل خطر إسرائيل أو مشاريعها التوسعية أو مجازرها اليومية... فتحريف البوصلة جريمة في زمن الضياع العربي.

الأدهى أن هؤلاء المحللين يلومون إيران على مأساة غزة، ويتهمونها بتأجيج الحرب، وكأنها هي من شرّد شعبًا، وقتل الأمهات، وسحق الأطفال، بينما يصمتون صمت القبور عند الحديث عن أنظمة عربية لم تُرسل إلى غزة (إلا الأكفان)، لا دواء، ولا ماء، ولا حتى موقفًا سياسيًا يُحترم.

نحن لا نروّج لإيران ولا ندافع عنها، ولسنا أتباعًا لأي دولة، بل نضع مصلحة الأردن والعرب فوق كل اعتبار. ولذلك نقول: إن تحويل إيران إلى العدو الأول للأمة هو خيانة للوعي، وخدمة مباشرة للمشروع الصهيوني، الذي لا يريد للأمة عدوًا سواه كي ينفرد بها ويفككها ويبتلعها بلدًا بلدًا... فنحن لسنا أعداءً لإيران، ولا ثأر بيننا.

لا مصلحة لنا في استعداء إيران، ولسنا بحاجة لنفاق سياسي يجعلنا في ذيل معارك ليست لنا، بل يجب أن نُدير تبايناتنا معها بسياسة متزنة تحفظ مصالحنا وتمنع انجرارنا إلى صراع لا نملك أدواته، ولا نحتمل كلفته، ولا نستفيد منه شيئًا.

قالها الراحل القذافي (يبلله الله بالرحمة والمغفرة) يومًا لإخوته العرب في أحد القمم المشهودة: "إيران جار لا مفر منه، ومش من مصلحتنا تكون عدونا ونحن عدوها، حلّوا خلافاتكم معها بالطرق السلمية، لأن الكرامة راحت، والمستقبل راح، والتاريخ يُنسف، والعرب في خطر وجودي"، رحمه الله.

نقولها اليوم بملء فم كل حر غيور، وبحكمة ووعي: لا تجعلونا مطايا لغيرنا، ولا تجعلوا من إعلامنا ساحة لتسويق خطاب يخدم من يهددنا ويعتدي علينا، ويخطط لنا ما هو أدهى وأخطر.

الأردن أكبر من أن يُتَّهم بأنه يفتح منابره الإعلامية لمن يُشيطن الآخرين خدمة لأجندات غريبة ومواقف لا تُشبه ثوابتنا السياسية الوطنية والهاشمية. الأردن لا يقبل التشكيك في نواياه، ولا أن يُستغل إعلامه لبث رسائل تُفهم على نحو يضعنا في صفوف من ينسون العدو ويبتكرون أعداءً جدد. ولن يرضى أي أردني حر أن نكون أبواقًا للتشكيك، ولا أدوات للمحاور المأجورة.

نحن نعتب ونغضب من إيران في بعض سياساتها، وننتقدها عند الحاجة، لكننا لا نخجل (كعرب) من ضعفنا، ولا نخفي خذلان بعضنا للقضية، ولا نخدع أنفسنا كعرب بعدو مزعوم نتفنن في التهويل عليه، بينما نبكي على أبواب التطبيع، ونلعق ذُلّ العمالة لإرضاء كيان لا يحترمنا، ولا يعبأ بوجودنا وكياننا العربي.

ختامًا، البوصلة واضحة، فلا تضلوا الطريق.
إيران ليست العدو الأول للأردن ولا للعرب.
العدو الأول هو من يحتل فلسطين، ويهدد الأردن وكيانه، ويقتل غزة، وينتهك الحرمات.
من يُصر على شيطنة إيران ويتغافل عن إسرائيل، فقد اختار أن يكون بوقًا مأجورًا أو صوتًا ضائعًا في زمن ضياع البوصلة.

الأردنيون يعرفون عدوهم، والقيادة تعرف ما تفعل، أما من يُشوش المشهد، فلن يكون إلا صوتًا نشازًا في سيمفونية وطنية تعرف أين تقف، ومن تُقاتل، ومن تُصافح.