الزغول لـ"أخبار الأردن": بند المساعدات أخطر ما في اتفاق الهدنة
قال الباحث في العلاقات الدولية والشأن الأمريكي الدكتور كمال الزغول، إن أخطر ما في تفاصيل الاتفاق يكمن، بلا ريب، في البُعد الاستراتيجي للتلاعب بالمساعدات الإنسانية؛ إذ يعتزم الجيش الإسرائيلي تخصيص مناطق توزيع مُقيّدة للمساعدات، بغرض تحقيق هدف بالغ الخطورة يتمثل في فصل المدنيين عن مقاتلي حماس، وهو إجراء يشي بتحويل المسار الإنساني إلى أداة ضغط عسكرية – سياسية بامتياز.
وأوضح الزغول في تصريحٍ خاص لصحيفة "أخبار الأردن" الإلكترونية أنّ الجدل العاصف الذي شهدته جلسة الكابينيت الأخيرة يُعطي مؤشرًا على ضعف متأصل في بنية خطة التنفيذ، تلك الخطة التي تقوم في جوهرها على افتراض التكيّف مع ظروف ميدانية متطورة لاحقًا، دون وجود رؤية حاسمة أو إطار مؤسسي موحد يُعزز صلابتها.
وبيّن الزغول أن الأخطر من ذلك، هو التباين الحاد الذي ظهر بين موقف المؤسسة العسكرية من جهة، ورؤية الوزيرين بن غفير وسموترتش من جهة أخرى، الأمر الذي يُعبّر عن أزمة عميقة في صناعة القرار الإسرائيلي، وهي أزمة تجمع بين التناقض في تقدير الأولويات الأمنية والسياسية، وبين افتقار تلك المؤسسة لصياغة سياسة متسقة إزاء قطاع غزة تحديدًا.
ومن هنا نستطيع الاستنتاج – بلا تردّد – أنّ خطة المساعدات هذه، برغم كونها أداة ضغط، قد تمثل الحلقة الأضعف في الاتفاق برمته، بل وربما تتحول، بعد توقف الرصاص، إلى سلاح تفاوضي بيد الأطراف المختلفة، تُعاد صياغة أهدافه تبعًا للتطورات الميدانية والسياسية، وفقًا لنا قاله لصحيفة "أخبار الأردن" الإلكترونية.
ونوّه الزغول إلى أنه لا يمكن إنكار ما تشكله الهدنة من متنفس حيوي لأهالي غزة، إذ تمنحهم – ولو مؤقتًا – هامشًا من الحياة في خضم حرب استنزفت البشر والحجر على السواء، لتصبح بمثابة وقفة تلتقط فيها الأنفاس قبل استحقاقات قد تكون أكثر صعوبة في المستقبل القريب.
وأشار إلى أن قراءة هذا المشهد بمعزل عن السياق الدولي الواسع تُعدّ قاصرة؛ إذ إنّ الصفقة نفسها لا تُفهم إلا في إطار أوسع وأعمق، يتمثل في رؤية الولايات المتحدة الأمريكية لمشهد إقليمي جديد في الشرق الأوسط، والتي تستند، في جوهرها، إلى استراتيجية التوازي في إدارة الملفات الشائكة، بدءًا من إيران والعراق، مرورًا بسوريا ولبنان، وصولًا إلى قطاع غزة، وهو ما يُعطي انطباعًا قويًا بأنّ واشنطن تمارس – وبدرجة ملحوظة – استعادة زمام المبادرة لترسيخ نظام دولي أحادي القطب في هذه الرقعة الجغرافية تحديدًا.
وفي المقابل، لا يمكن إغفال أنّ هذا التوجّه الأميركي قد ترافق مع انكفاء نسبي لروسيا والصين، اللتين تراجعت أدوارهما في الإقليم إلى هوامش اقتصادية أو تحركات دبلوماسية متقطعة، دون قدرة ملموسة على بناء نفوذ أمني أو سياسي موازن، ما يقود إلى تشكّل ما يمكن تسميته – بدقة – «نظام دولي جزئي» أو World Sub-Order في الشرق الأوسط، يعمل بشكل مستقل نسبيًا عن بدايات نظام دولي متعدد الأقطاب يتكوّن في مناطق أخرى من العالم.
ولئن كان من المسلّم به نظريًا أنّ النظام الدولي وحدة متكاملة لا تُجزَّأ، فإنّ الواقع الماثل أمامنا يُبرهن على قدرة بعض القوى الكبرى على فرض مسارح نفوذ جزئية تُدار وفق مصالحها الحيوية، لتكون بمثابة خطوط تماس بين أحادية قطبية موضعية هنا، وتعددية قطبية ناشئة هناك.
وطرح الزغول عدة أسئلة حول ما إذا ستتمكن الولايات المتحدة من إحباط تبلور نظام عالمي متعدد الأقطاب عبر ترسيخ هيمنتها الأمنية والسياسية في الشرق الأوسط، مضيفًا أنّ الإجابة تتوقف – في جانب كبير منها – على مآلات الاتفاقات النهائية في هذه المنطقة، وما إذا كانت واشنطن قادرة على تحويلها إلى حجر الزاوية في مشروعها لصياغة نظام دولي جديد، يطلّ من قلب هذه البقعة المشتعلة.
وأردف أنّ الرئيس دونالد ترمب، بحكم خلفيته كرجل أعمال، عانى – على ما يبدو – من انقسام ذهني في تصوره لطبيعة النظام العالمي، فقد تبنّى مقاربة تقوم على فرض سيطرة شبه مطلقة في الشرق الأوسط، مقابل تساهل ملحوظ حيال مسارح النزاع أو التنافس الأخرى، مشيرًا إلى أن هذا التجزؤ في الرؤية الاستراتيجية لا يخدم – على المدى المتوسط والبعيد – استمرار النفوذ الأميركي العالمي، لأنه يُبقيه رهين منطقة محدودة جغرافيًا بدلًا من توزيع القوة والتأثير على رقعة أوسع.
ولعلّ ما يزيد المشهد تعقيدًا أنّ الإدارة الأميركية الحالية تواجه إرثًا دوليًا هشًّا؛ فقد انهار النظام الدولي الأحادي القطبية، الذي تشكّل عقب الحرب الباردة، بطريقة دراماتيكية يصعب ترميمها من قبل قوة منفردة، في ظل تصاعد أدوار القوى الإقليمية والدولية الأخرى، واتساع فجوة الثقة في النظام الليبرالي العالمي.
وعلاوةً على ذلك، فإنّ الولايات المتحدة لا تبدو – حتى الآن – قادرة على توظيف كامل عناصر قوتها الشاملة في مشروع إعادة صناعة النظام الدولي، بدءًا من بناء صورة القدوة الأممية في المنظمات الدولية، إلى توسيع نفوذها الدبلوماسي خارج مناطق الصراع المباشر، فضلًا عن تسويق نموذج الديمقراطية الليبرالية كقيمة عالمية، وانتهاءً باستخدام القوة العسكرية كأداة ردع واستقرار إيجابية، لا كأداة قهر.
وبالعودة إلى جوهر الصفقة، لفت الزغول الانتباه إلى أنّ بند المساعدات الإنسانية ليس إلا مرآة تعكس طبيعة هذا النظام الجزئي القائم في منطقتنا، وهو نظام مشبع بالتناقضات، يُوظّف القوتين الناعمة والصلبة في آن، دون أن ينجح – حتى اللحظة – في بناء سلام مستدام أو معالجة جذور الأزمات، وفي نهاية المطاف، ستظل غزة شاهدًا حيًا على صراع الإرادات في زمن التحولات الكبرى، ومختبرًا مفتوحًا لتجاذبات نظام دولي لم تتضح ملامحه الكاملة بعد.