طويل يكتب : خطاب الملك بعد مضيّ 72 ساعة: نصٌ يتجاوز اللحظة

 

عمر طويل

اعتاد الأردنيون على هبّات إلكترونية لا تدوم أكثر من اثنتين وسبعين ساعة؛ غضبًا على حادثة، أو نشوة بفرحة، ثم يخبو كل شيء تدريجيًا ويختفي. هذه الموجات الزاخرة بالمشاعر لا تستمر إلا إن شاء الناس لها عمرًا أطول، وغالبًا ما تذوي من تلقاء نفسها، فلا تلبث أن تختفي إلا إن حرّكها أحدهم مجددًا، فتعيش سويعات إضافية، من دون أن تستعيد زخمها الأول.

لهذا السبب، لا يزال العلماء والمفكرون، وأهل الفن والحكمة، يلجأون إلى الوسائط التي تقاوم  ذلك الزمن؛ مثل الكتب، اللوحات الفنية ، والكلمات الصادقة، والأماكن المليئة بالمعاني. يجمع بين هذه الوسائط جميعًا خاصيّة جوهرية واحدة: القدرة على البقاء، على الترسّخ في الذاكرة، وعلى التحوّل إلى مرجعيّة تُبنى عليها أفكارٌ جديدة، وينبثق منها محتوى متجدد يحمل في طيّاته ذاكرةً جماعية لا تندثر.

فاللوحة الفنية قد تتحوّل كتاب، والأماكن تتحوّل إلى معانٍ لا يمكن وصفها وملاذات آمنة لما فيها من ذكريات ، وكل ذلك يمكن أن يُلهم كاتبًا ليوثّق في كتاب ما لم تستطع التغريدات أو القصص العابر أن تحفظه.

كل ما يصمد أكثر من 72 ساعة، لا يعود من صنف المحتوى العابر أو اللحظي، بل يغدو مضمونًا عميقًا يمكن إعادة إنتاجه في صور مختلفة: أغنية، ثم شعرًا، فذكرى، تُوثّق في كتاب أو أرشيف أمة. ومن هنا تنبع قوة اللحظات العظيمة، حين تنجو من مقصلة سرعة التلاشي الحديثة.

وهذا بالضبط ما فعله جلالة الملك عبدالله الثاني في خطابه أمام البرلمان الأوروبي. لقد وقف بثبات، وكانت نظراته أبلغ من ألف كلمة، نطق بالتحذير، فيما انفجرت مشاعره وخوفه على مصير المنطقة لتصل إلى القلوب مباشرة، وعبّر عن أوجاعنا الجماعية بأعلى مما قاله لسانه.

أعاد الملك عبدالله  ضبط البوصلة الأخلاقية في عالم اختلطت فيه المبادئ، وانجرف كثيرون نحو شذوذ التطبيع الجرائم والانحياز الأعمى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فندّد بالغضب الانتقائي، ورفع راية العدالة، وحذّر من تطبيع الجريمة حتى في ذاكرتنا.

تكلّم وهو يعلم اننا رصيده الحقيقي، وأنّ وحدتنا الداخلية هي صمّام الأمان، وهي القاعدة التي انطلق منها ليُسمع صوت الحق وسط ضجيج المصالح.

ولم يكن لجلالة الملك أن يتحدث بهذه القوة والثقة لولا اتساق الجبهة الداخلية، وعقلانيتها، ولولا شعورنا المشترك بالاستقرار الذي زرعه فينا بثباته واتّزانه عبر السنوات. فالمواقف العظيمة لا تُبنى فجأة، بل تتكوّن عبر بناء تدريجي، مستمر وثابت، لا يهدف إلى ضوء لحظة، ولا ينصاع إلى رغبة قصيري النظر.

فلنكن نحن من يُبقي هذا الخطاب حيًّا بعد انقضاء الـ72 ساعة. لنحمله في وعينا، ونترجمه إلى موقف، ونحوّله إلى مبادرة، ونستخرجه من أرشيف اللحظة إلى عمل مستدام. فالتاريخ لا يُكتَب فقط بما يُقال، بل بما يُتَّخذ من قرارات بعده.

وفي زمنٍ ينسى العالم فيه بسرعة، فإن الشعوب التي تحفظ كلمات قادتها، وتحوّلها إلى أفعال، هي الشعوب التي تصنع مجدها بيدها

وها نحن اليوم، بعد أكثر من ٧٢ ساعة على خطاب الملك أمام البرلمان الأوروبي، لا زلنا نتناقله، نحفظ عباراته، نُحلل إيماءاته، ونستشهد به في أحاديثنا الخاصة والعامة. لم يكن ذلك مجرد خطاب مرّ في النشرات الإخبارية، بل أصبح مرجعية أخلاقية وموقفًا يُبنى عليه، صوتًا ينطق باسم كل من خذلهم العالم، وكل من خانه الإعلام، وكل من ضاعت قضيته في زحمة التحالفات الباردة.

لقد قدّم جلالة الملك خطابًا ليس للعرض، بل للبقاء. بقاء يُشبه بقاء القيم، والهوية، والوجدان. وهو بذلك يذكّرنا بأننا لا نملك ترف الغضب المؤقت، ولا رفاهية النسيان بعد ٧٢ ساعة. إن الخطابات التي تغيّر المجتمعات لا تُلقى فقط، بل تُحمل، وتُفسّر، وتُعلَّم، وتُحفظ للأجيال.

فدعونا لا نجعل من خطاب الملك مجرّد موجة جديدة تنتهي بانتهاء الجدول الزمني للترند. بل اجعلوه لوحة تُعلّق في الذاكرة، وطابعًا يُوثّق موقفًا، وشارعًا يُسمّى باسمه، وكتابًا يُدرّس في مدارسنا. احملوا كلماته كما تُحمل الرايات، وازرعوها في سلوككم اليومي كما تُزرع البذور في أرض الوطن. استخدموه في ردودكم وأفكاركم ونقاشاتكم ، تعلموا منه ان الثبات على الحق يحتاج صبرا لكي يأتي أكله، والثبات كالكلمة الطيبة اصلها في الارض وفرعها في السماء وستاتي أوكلها كل حين وآخر.

فلتسقط ال ٧٢ ساعة ، ولنرفع صوت الحق ما حيينا.