الدباس يكتب : لماذا الصاروخ مع المسيّرة.. وما أثرها على الدول المجاورة؟!..

 محمود الدباس - أبو الليث..

لست خبيراً عسكرياً.. لكنني ككثيرين من الكُتاب الذين يبحثون عن الحقيقة.. ووضعها بين يدي القاريء.. فتحت عينيّ على هذا الطوفان من الصور والتحليلات.. فوجدتني أبحث وأتابع.. أقرأ عن الصواريخ الذكية.. وأتساءل عن دور الطائرات المسيّرة.. وأحاول فهم معنى الهجوم المركّب.. وهل فعلاً يمكن لصاروخٍ ذكيّ أن يتيه.. أو لطائرة بدون طيار أن تُضلل.. وفي خضمّ هذا.. خرجت بهذه الرسالة.. لعلني أجيب بها.. على ما قد يخطر على بالكم.. كما خطر على بالي..

فمنذ أن دخل الصاروخ الذكي ميدان السياسة قبل ميدان الحرب.. تغيّر شكل المواجهة.. فلم يعد النصر مرهوناً بمن يطلق أولاً.. بل بمن يخطط لآخر ضربة.. وكأنها الأولى.. وفي هذا السياق.. حين نتحدث عن إيران.. وهجومها الصاروخي تجاه الكيان الإسرائيلي.. فنحن لا نقرأ مجرد حدثٍ عابر.. بل نُبحر في تكتيكٍ تم بناؤه على فهمٍ دقيقٍ لما لدى الخصم.. أكثر مما هو افتخار بما في الجعبة..

فإيران تعلم منذ البداية.. أنها لا تملك منظومة ملاحة فضائية كالـGPS الأميركي.. أو الـGLONASS الروسي.. ولا منظومة أقمار صناعية متكاملة.. تساعدها في توجيه الصواريخ بدقة عبر المدار.. لذلك كان من الطبيعي أن تبني استراتيجيتها الصاروخية على أنظمة توجيه بديلة.. كـ"القصور الذاتي" (Inertial Navigation System - INS).. وهي منظومة تعتمد على التسارع والدوران الداخلي.. دون الحاجة إلى إشارات خارجية.. وهو ما يمنح الصاروخ استقلالية عالية في الطيران.. لكنه يدفع ضريبة محددة من الدقة.. خاصة إذا تجاوزت المسافة مئات الكيلومترات..

ولتعويض هذا القصور.. وبدلاً من أن تنتظر السماء لتدلّها.. صنعت إيران أدلّاءها على الأرض وفي الجو.. فكان للطائرات المسيّرة دور أكبر من مجرد قصف.. أو تصوير.. بل أصبحت هي العين التي ترى.. واليد التي تصحح.. ففي حالات التشويش.. أو الخداع الملاحي (Spoofing).. حين يُوهم الصاروخ أنه على الطريق الصحيح.. وهو في الحقيقة تائه في مسار آخر.. تكون المسيّرات القريبة منه.. هي مَن تعيد تغذيته بالمعلومة الصحيحة.. سواء عبر تحديث منتصف الرحلة (Mid-course update).. أو عبر إرسال إشارات ملاحية بديلة.. أو حتى عبر البث البصري والحراري.. الذي يساعد رأس الصاروخ على تمييز بصمة الهدف من الجو..

وبذلك تحوّلت المسيّرات من مجرد وسيلة هجوم.. إلى جزء من منظومة التوجيه.. بل في بعض الأحيان.. تكون هي مَن تُضلّل العدو.. بأن تمهد لهجوم صاروخي قادم.. فتغرق السماء بطيّارات بطيئة ورخيصة.. ترصدها الرادارات.. وتُربك منظومة القرار الدفاعي.. لتظهر بعدها الصواريخ الحقيقية في زحام الضجيج.. ولا يعود من السهل فرز الطلقة من الطُعْم..

وفي هذا السياق.. تصبح عملية الإغراق (Saturation Attack).. هي جوهر الفكرة.. أي أن تُطلق عشرات الصواريخ دفعة واحدة.. من أنواع مختلفة.. بسرعات متفاوتة.. وارتفاعات متباينة.. وفي موجات مقصودة.. ليس من أجل أن تصل كلها.. بل من أجل أن تُجبر الدفاعات الجوية على الرد المبكر.. وتستهلك صواريخ الاعتراض باكراً.. لأن المنظومات الدفاعية.. كـTHAAD الأميركي.. أو مقلاع داوود الإسرائيلي.. لا تملك عدداً مفتوحاً من الذخيرة الجاهزة.. بل تتراوح حمولتها في بعض الحالات.. بين 8 إلى 16 صاروخاً فقط.. وبعدها تدخل في فترة إعادة التذخير.. وهي فترة حرجة.. قد تستغرق 20 إلى 30 دقيقة.. يتوقف فيها السلاح.. وتبقى السماء مكشوفة.. وهنا تحديداً تصل الموجة الثانية من الصواريخ.. وهي الموجة التي لا يوقفها سوى الصمت.. وهي ما اطلق عليها خبراء بالثغرة..

فالصاروخ الذكي.. لا يربح فقط بدقته.. بل بتوقيت وصوله.. وإن كان هناك منطق يحكم هذه الاستراتيجية.. فهو أن الدفاع لا يمكنه أن يُعيد التذخير بين موجتين.. لا يفصل بينهما سوى دقيقتين.. وهذا ما يجعل الطلقة الأولى.. لا تُقتل وحدها.. بل تُمهد لهروب الطلقة الثانية من فم السلاح..

لكن هذه المعادلة ليست أحادية الاتجاه.. فالصواريخ التي تعتمد على القصور الذاتي دون تصحيح.. أو توجيه خارجي.. أو تلك التي تُضلّل عن طريق الـSpoofing.. قد تفقد مسارها تماماً.. وتصبح هائمة في الجو.. تبحث عن هدفٍ لا تراه.. أو تسقط في منطقة غير مقصودة.. وفي هذا تكمن الخطورة على الدول المجاورة.. فصاروخٌ خرج من مسار موجه نحو هدفه.. قد يتحول إلى شظية تسقط في أرضٍ لا علاقة لها بالمعركة.. وهنا يظهر سؤال كبير.. ماذا لو وقعت هذه الصواريخ في دولة محايدة؟!.. أو فوق منشأة مدنية؟!.. ومَن سيتحمل الحساب؟!.. وما هي ردة فعل سكان تلك المنطقة؟!..

كذلك الطائرات المسيّرة.. رغم أنها أدوات ضبط وتوجيه.. إلا أنها أيضاً معرّضة للتشويش.. أو الاختراق.. وقد تتحول من مساعد للصاروخ.. إلى تهديد بلا وعي.. يُسقط عبء المسؤولية على الجميع.. ويكشف هشاشة الحرب.. حين تُدار بتقنيات قابلة للعبث..

ورغم كل ما سبق.. لا يُفهم من هذا.. أن إيران قدّمت تكنولوجيا متفوقة.. أو عصية على المواجهة.. بل الأصح أنها.. اشتغلت على ما تملكه بذكاء.. وتجاوزت ما تفتقده.. ببناء استراتيجية مبنية على التنسيق الزمني.. والتكامل بين أدوات متعددة.. وتقليل الاعتماد على الخارج في أهم لحظة.. لحظة اتخاذ القرار..

فلا أقمار تُدير المعركة.. ولا حلفاء يُمسكون البوصلة.. بل محاولة مستمرة لإنتاج ضربة.. لا تُفهم من طلقتها الأولى.. بل من توقيت وصولها الأخير..

وهكذا.. تصبح الصواريخ في يد مَن لا يملك الفضاء.. وسيلةً لتغيير الواقع على الأرض.. لا لأنها قادرة على تدمير الهدف.. بل لأنها تُفكر كيف تصل إليه.. حين تتوقف العيون عن الرؤية.. وتتوقف الدفاعات عن الرد..

وفي المقابل.. تبقى هذه الوسيلة سلاحاً مزدوج الحدّ.. فحين تضلّ الصواريخ طريقها.. أو تهيم الطائرات في سماء ليست لها.. قد تتحوّل إلى خطرٍ عابر للحدود.. لا يُصيب العدو وحده.. بل يُخطئ الهدف.. ويُصيب مَن لم يكن طرفاً في الحرب أصلاً..

محمود الدباس - أبو الليث..