غرايبة يكتب : حقائق مؤلمة وكلام يُغضب كل الأطراف

 

رحيل غرايبة

أعتقد أن الضربة الإسرائيلية لإيران فجر الجمعة تمثّل عنوانًا مهمًا من عناوين المرحلة الجديدة في المنطقة، حيث رسمت معالم النهاية للمشروع الإيراني الذي يعاني من التحجيم وقصقصة الأجنحة وبتر الأطراف منذ ما يزيد على عامين.

إيران جاءت تمثل مشروعًا طموحًا يعيد أمجاد الإمبراطورية الفارسية بوجه ديني مذهبي متعصب، يبسط هيمنته على حساب المساحة الجغرافية العربية.

المشروع الإيراني بهذا الطموح يضع نفسه في مواجهة مشروع صهيوني قوي، يحلم بإعادة أمجاد إمبراطورية دينية يهودية متعصبة يبسط هيمنته على المساحة الجغرافية العربية أيضًا (من النيل إلى الفرات).

وهناك مشروع سياسي آخر في المنطقة نفسها، وهو المشروع التركي السني، الذي يطمح بإحياء الإمبراطورية العثمانية التي كانت تبسط سيطرتها على الجغرافيا العربية الواسعة أيضًا.

المشاريع السياسية الثلاثة تشترك بعدة سمات:
تستند إلى الدين، وإلى جذور تاريخية في المنطقة، وكلهم ينظرون إلى الجغرافيا العربية التي تُعدّ خلواً من مشروع سياسي عربي موحد.

أما المشروع الإيراني، فقد استند إلى مجموعة من الاستراتيجيات:

إعادة التأييد الديني لفكرة مشروعها من خلال إحياء الانتماء المذهبي، وإعادة خطاب مظلومية الحسين، وحراسة المراقد، وغيرها من وسائل الحشد والتعبئة المذهبية.

تشكيل أذرع مسلحة ودعمها بالمال والسلاح حتى تكون أدوات خشنة في تحسين وضعها السياسي وتحصيل مكاسب سياسية من خلال شعارات إعلامية تتبنى المواجهة والممانعة ودعم المقاومة.

أما المسار السياسي غير المعلن، فهو محاولة تبني مهادنة المشروع الأمريكي وأدواته في المنطقة، من خلال التعاون وتقديم المساعدة للأمريكان في احتلال أفغانستان والعراق. وقد تم الإعلان عن ذلك في أكثر من مناسبة، حيث صرّح رافسنجاني، عندما كان رئيسًا للجمهورية، بأنّه لولا إيران لما استطاعت أمريكا أن تحقق انتصاراتها في أفغانستان والعراق.

أما الأمر غير المعلن، فهو التعاون مع أمريكا في تمزيق القوى السنية وإضعافها، وقد تم التعاون والتنسيق المؤكد في تأسيس "داعش" لتكون مبررًا لحرب السنة ووصمهم بالإرهاب والتطرف.

نجحت إيران على مدار عقود في إدارة مشروعها على هذا النحو، وتم إنجاز تدمير الأقطار العربية الكبرى وتشويه المحتوى السني المقاوم. وقد أعلن أوباما أن إيران تمثل حليفًا قويًا وناهوضًا يُعتمد عليه في المنطقة، وحطّ من شأن العرب في فترات رئاسته للولايات المتحدة.

أعتقد أن أمريكا وإسرائيل استثمرتا استثمارًا ناجحًا في المشروع الإيراني لتصفية أعداء إسرائيل المحتملين على حدودها أولًا، والتي كانت تشكل خطرًا داهمًا. فأوجدت شبحًا يهدد الخليج من أجل حلبه بسخاء، وبعد هذا الاستثمار الناجح بدأت مرحلة جديدة، توجهت الأنظار فيها إلى التخلص من قوة المشروع الإيراني الذي امتد نحو العراق وسوريا ولبنان واليمن وغزة، مع وجود نية للزحف نحو أقطار عربية أخرى مثل البحرين والسعودية والإمارات والأردن.

نجحت الخطة الأمريكية – الإسرائيلية في قصقصة أجنحة إيران وبتر أطرافها في المنطقة العربية، بدءًا بسوريا ولبنان وغزة، ويمضي المخطط نحو اليمن ومناطق النفوذ الأخرى.

آثرت إيران التنازل الطوعي المتعجل عن أدواتها لحفظ نفسها، فضحّت بحزب الله في لبنان، وحليفها بشار في سوريا، والمقاومة في غزة، ثم تنازلت عن اليمن تحت باب تقديم ما يحميها من ضرب مشروعها النووي وضرب النظام القائم في طهران.

لكن إيران لم تدرك أن هذه التنازلات المريعة كانت اعترافًا بالضعف والعجز، ولن تحميها من التصفية النهائية.

جاءت الضربة فجر اليوم الجمعة الواقع في الرابع عشر من حزيران لعام 2025، لتحسم الجدل حول اتخاذ القرار الحاسم بإنهاء المشروع الإيراني في المنطقة، لتعود دولة منزوعة الأظافر.

إن تصفية المشروع الإيراني وأدواته لها دلالات مستقبلية أكثر خطورة:

الدلالة الأولى:
أن الحدث يشكل إنذارًا لكل الدول العربية الأخرى التي كانت تعلن عداءها لإيران وأدواتها، لأنهم أصبحوا رأس الدور في مشاريع الهدم وإعادة البناء ورسم معالم المنطقة الجديدة بشكل مختلف. ولن ينفعهم التحالف مع الأمريكان والصهاينة، لأنه باختصار لم يعد "البعبع" الذي يتم التحالف معهم من أجله قائمًا أو ذا جدوى. ومن المعروف أن هذه التحالفات مؤقتة ومرتبطة بأهداف محددة.
فلا يفرحوا كثيرًا، وعليهم أن يكفّوا عن الترحيب والتهليل بهذه الضربة، وعليهم أن يكونوا أكثر تعقلًا من ذلك، مع أن الأمر قد فات بالنسبة إليهم...

الدلالة الثانية:
أعتقد أن الأنظار العدوانية سوف تتجه نحو المشروع التركي، وربما سوف تقلب أمريكا وإسرائيل ظهر المجن بعد تصفية إيران وحشرها في أرضها بعد إخراجها من العراق. سوف تتجه الخطة لإثارة العداء لتركيا، وسوف تظهر مصطلحات مواجهة الطموحات العثمانية، وسوف يتم توجيه الإعلام نحو التعبئة والحشد ضد أنصار تركيا، وسوف يتم محاربة القوى الإسلامية بالذات التي تم اتهامها سابقًا بالعمالة لإيران، وسيتم لاحقًا اتهامها بالعمالة لتركيا.

ما هي التوصيات للتعامل مع المرحلة بعد هذا التسارع نحو النهايات؟

التوصيات صعبة، وتبدو بعيدة المنال، لكن لا أعتقد أننا أمام ترف تعدد الخيارات وسهولتها:

التوصية الأولى:
بلورة مشروع سياسي عربي تنخرط فيه كل الدول العربية من أجل حماية أراضيها وحدودها وشعوبها ومقدراتها ومستقبل أجيالها، وأن يكون لهذا المشروع رؤيته الموحدة وثوابته العربية الواضحة، بعيدًا عن الهيمنة الأمريكية والإسرائيلية. وعلينا أن نعلم يقينًا أننا بلا مستقبل إذا كنا بلا مشروع مستقل خالٍ من العملاء للقوى الكبرى.

التوصية الثانية:
البحث عن تحالفات أخرى مع المتضررين من المشروع الأمريكي – الصهيوني لتشكيل الحماية المطلوبة والقوة الذاتية القادرة على وقف الاختراقات والإملاءات المتغطرسة.
علينا أن ندرك بعمق أن الاحتماء بأمريكا لا يشكل حماية، أما طريق استمداد القوة من العدو المحتل، فهي الحالقة والماحقة بلا أدنى ريب.