الدباس يكتب : فاكس لدولة الرئيس.. السوق يختنق خارج مكاتبكم.. فهل تنصتون؟!..

 محمود الدباس - أبو الليث..

حين ننظر إلى الصين اليوم.. لا نُبهر فقط بما حققته من طفرات اقتصادية.. بل بكيفية صياغتها لعلاقة ذكية بين الدولة والسوق.. بين الحزب والقطاع الخاص.. بين الأيديولوجيا الشيوعية.. وروح الانفتاح الاقتصادي.. فبرغم القبضة السياسية المحكمة.. فتحت الحكومة الصينية أبواب التشريع.. ومهدت الأرضية القانونية والمالية للاستثمار.. ورفعت سقف الطموح أمام المستثمر المحلي.. ومنحته حماية سياسية حين عبر حدودها.. وسهلت له الداخل.. حتى بات كل مَن يملك فكرة وقدرة.. يجد المسار معبّدا لا معرقلا..

أطلقت الحكومة الصينية يد القطاع الخاص.. ولكنها لم تتركه نهبا للفوضى.. دعمته.. لكنها لم تقم بتدليله.. راقبته.. لكنها لم تُعِقه.. فكانت النتيجة.. أن هذا القطاع.. أصبح ذراع الدولة الطويلة في العالم.. ونافذتها الناعمة إلى كل القارات.. فغزت بضائعها الأسواق.. وتسللت شركاتها إلى البنية التحتية لأمم كبرى.. لا من باب الهيمنة.. بل من بوابة الكفاءة.. والخفة.. والسعر.. والسرعة..

وفي المقابل يا دولة الرئيس.. نلتفت إلى واقعنا المحلي.. لنجد أن القطاع الخاص.. لا يزال يعاني من إدارة حكومية عاجزة عن فهمه.. تتعامل معه كمتهم.. لا كشريك.. تفرض عليه التعليمات دون مشاورته.. تراقبه بتشدد.. ولا تدعمه بمرونة.. تحمله أعباء التوظيف.. والضرائب.. والرقابة.. ثم تتساءل.. لماذا لا يُبدع؟!.. لماذا لا يتوسع؟!.. لماذا لا يُصدّر؟!..

ولعلّ من أصدق الشواهد على هذا الخلل.. أن كثيراً من المديرين.. والإداريين.. والماليين.. الذين سُمّوا عباقرة في القطاع العام.. وسُوّقوا كناجحين لعقودٍ داخل المؤسسات الحكومية.. ما إن انتقلوا إلى إدارة شركات في القطاع الخاص.. حتى فشلوا فشلاً ذريعاً.. لأن أدوات الحكومة.. لا تصلح للسوق.. ولأن مَن لم يذق طعم المخاطرة يوماً.. لا يستطيع أن يدير ميدانها..

المشكلة ليست في القطاع الخاص.. بل في العقلية التي تديره من الخارج.. دون أن تفهم دقائقه من الداخل.. عقلية لم تضع رجلاً واحدة في السوق لتفهم إيقاعه.. بل ظلت تراه من وراء المكاتب.. أو من عدسات التقارير الشهرية..

تأملوا ما جرى عندما فُتح الاستثمار في قطاع الاتصالات.. كيف تغير وجه الخدمة.. وتحوّلت من طوابير وانتظار.. إلى جودة.. وسرعة.. وتنوع.. وكيف بات الهاتف الذكي في يد الفقير قبل الغني.. بفضل انفتاح السوق والمنافسة.. وليس بفضل بيروقراطية الحكومة..

ثم انظروا إلى محطات الوقود.. كيف أصبحت مؤسسات خدمية راقية.. بعد أن كانت أشبه بالورش المهملة.. أليست هذه شواهد على ما يمكن أن ينجزه القطاع الخاص.. حين يُعطى الحرية؟!.. وحين تكون الحكومة داعمة.. لا منافسة؟!..

ثم التعليم.. وتلك المفارقة الصارخة.. بين المدارس الحكومية والخاصة.. وكيف أن المعلم في الخاص.. رغم مشكلة الأمان الوظيفي.. هو الأكثر طلباً في المنصات.. والمراكز.. والدروس الخصوصية.. لأنه مُحفّز.. ومُتابَع.. ومُقدَّر.. بينما يُترَك زميله في المدرسة الحكومية بلا تطوير.. ولا مساءلة.. ولا بيئة تساعده على التفوق.. ناهيك عن تطبيق المدارس الخاصة.. لكافة التعليمات الخاصة بالغرف الصفية والمَرَافق.. ونِصاب المعلم.. وعدد الطلاب.. بينما لا نجد ذلك في العديد من مدارس الحكومة..

أليس الأجدر بالحكومة.. أن تنصت لهذا القطاع.. قبل أن تصدر القرارات بشأنه؟!.. أليس من الحكمة.. أن تفتح حواراً حقيقياً صادقاً.. مع مَن يعيش السوق يوماً بيوم.. بدلاً من الاعتماد على نظرياتِ مَن لا يعرف الفرق بين تحديات الريادة.. وتعقيدات التعليمات؟!..

القطاع الخاص لا يطلب منكم تمويلاً.. بل يطلب أن ترفعوا عن ظهره ثقل الإجراءات.. وكابوس التردد.. وسوط العقوبات غير المنطقية.. يريد منكم وضوح الرؤية.. وعدالة التشريع.. وأماناً في الداخل.. ودعماً حقيقياً في الخارج.. يريد أن يشعر.. أن حكومته تقف خلفه إذا اجتهد.. لا أن تترصده إذا اجتهد وأخطأ..

لا نطالب بأن تصبح الحكومة شركة.. بل نطالب بأن تفكر بعقل الشريك.. لا عقل الوصي.. فليس من العدل.. أن تظل تنظر إلى القطاع الخاص.. وكأنه مجرد وسيلة لتغطية عجزكم في التوظيف.. أو لتبرير فشل الحكومة في النمو.. بل هو الفرصة الحقيقية لإنقاذ الاقتصاد من عجز الرؤية.. لا فقط عجز الميزانية..

دولة الرئيس.. لا يمكن بناء اقتصاد قوي.. دون عقل مرن.. ولا يمكن بناء قطاع خاص مزدهر.. بعقلية عامة جامدة.. فإما أن تنصتوا لمن يعرف.. أو تستعدوا لمزيد من الخيبات.. ومزيد من هروب المستثمر.. وتآكل الثقة.. وانكماش السوق..

آن أوان الشراكة الحقيقية.. لا الشراكة التي تُكتب في خطط استراتيجية.. ثم تُنسى في درج الوزارات.. فالقطاع الخاص ليس مجرد ذراع اقتصادي.. بل هو رئة الدولة التي تتنفس بها النمو الحقيقي.. لا نمو الأرقام في التقارير.. هو مَن يخلق فرص العمل التي لا تكلّف الدولة شيئاً.. وهو مَن يفتح الأبواب للعالم حين تُغلق النوافذ السياسية.. وهو مَن يغامر بماله.. بينما تغامر الحكومة أحياناً بمستقبل البلاد دون شريك يحاسبها..

فلا تتركوا السوق يختنق.. ثم تتساءلون لماذا لا يتنفس.. فمكاتبكم لا تشم رائحة السوق..