المحاريق يكتب : الأردن العميق...
سامح المحاريق
حذفت بالأمس تعليقًا حول الخدمات الحكومية الإلكترونية، لأن المعلقين قدموا نماذجًا جيدة، أمام النموذج البائس الذي كنت أقصده، ولكن تعليقًا استوقفني بشدة، كتبه الأخ أحمد زيدان، ومنه اقتبس:
" بحاول اتخيل لو حدا غيرك علّق هذا التعليق شو بتكون نوعية الاتهامات اللي رح ياكلها … وخصوصاً انه التعليق متزامن مع عيد الاستقلال "
عمومًا، ليست لي أي حصانة من التشكيك والتفتيش في النوايا عندما أتعامل مع الشأن العام بالنقد أو التحليل، إلا أنني أعرف، ومن متابعتي أيضًا، حيازتي لشيء من المصداقية عندما أتحدث في هذه الشؤون، وهو ما جعل الصديق المحترم، يراني بعيدًا عن التجاذبات المتهافتة.
الأمور ليست سيئة، على العكس من ذلك، فمجرد التواجد بالطريقة التي نعايشها اليوم مقارنة بالطيف العربي غير النفطي، فالأمر يعد منجزًا كبيرًا، ولكن ما يثير الضيق أحيانًا هو وجود الفرص الكاملة والآمنة لتصبح الأوضاع أفضل، فقط لو أننا قمنا بالبحث عن نموذجنا الخاص الذي ينبني على الواقع الأردني بإمكانياته واحتياجاته، بدلًا من البحث عن الهوية والسردية وغيرها من الأحجيات التي تشكل تسليةً وطرقًا التفافية حول الأسئلة الحقيقية والعاجلة لبعض العاملين في الشأن السياسي والفكري.
في بداية الألفية الثالثة واجهت بكثير من الغضب وقلة الحيلة ككاتب في صحيفة أسبوعية غير واسعة الانتشار، فريقًا من المتأنقين Yuppies الذين يتشدقون باستنساخ نماذج سنغافورة ودبي، ويحاولون اختزال كل شيء في العروض التقديمية (البريزنتيشن)، وفي الحقيقة، ومع الدخول في مرحلة 2006 – 2009 فما كان واضحًا لدي هو عملية لبننة (نسبة إلى لبنان) الأجواء العامة في الأردن، للدرجة التي شاعت فيها الاستعانة بمذيعين من لبنان الشقيق في الإذاعات المحلية، والأمر كان يتمدد للوسط السياسي بطريقة أو بأخرى، وكان علي أن أتساءل أين الأردن كنموذج؟
وصلت البيروقراطية الأردنية إلى مرحلة من التهالك في تلك السنوات، وأصبح واضحًا أن أدواتها لم يعد بإمكانها مجاراة العصر، ولكن لا بد من القول أنه من التعسف والظلم تحمليها بما يفوق طاقتها، فالوصول إلى أزمة 1989 التي شكلت منعطفًا مهمًا يستدعي إعادة النظر في أنماط الحياة والإنتاج في الأردن لم يكن مسؤولة البيروقراطية بقدر ما كان محمولًا على وعود الستينيات وتسويات السبعينيات، والنموذج التائه بين الاشتراكية واقتصاد السوق، ووجود مشاريع كبيرة متزامنة تلتهم الموارد المحدودة، بالإضافة إلى أزمة الخليج 1990 – 1991 وحدوث إزاحة سكانية ناعمة لم تتم دراسة آثارها الاقتصادية والاجتماعية بالصورة اللازمة في وسط السخونة الإقليمية التي بدأت تصبح عاملًا مهمًا وتحديًا مزمنًا في الأردن.
سؤال اعتراضي، ولكنه يوضح فكرة تغيب النموذج، لماذا لم يتحول رنوش – جبل الحسين أو هاشم – وسط البلد، إلى سلسلة من الفروع مثل جاد والتابعي في مصر، في الوقت الذي تتوسع فيه فروع الكنتاكي والماكدونالدز؟ لماذا لم يتم توكيدها بوضوح: هذا نمط حياتنا في الأردن؟ وبهذه الطريقة تمضي الأمور؟
الوكالة السياسية (إخوان وبعثيون ويساريون أمميون أو جبهويون) تلاقت في مرحلة ما مع الوكالة الاقتصادية، وللخروج من الصدام كان على القادمين بأجهزة اللابتوب أن يقدموا حلولهم البعيدة عن النموذج الأردني السابق والتي تذهب لاستعارة نماذج غير صالحة للتطبيق أردنيًا، وكان التساؤل، هل يمكن لأحد أن يتقدم بحلول المواصلات في الأردن بينما لم يعرف في حياته باصات الكوستر والسرفيس وخطوطها الرئيسية؟ لم يكن الذين يخططون لزراعة ناطحات السحاب في عمان – مثلًا – يدركون تفاصيل البنية التحتية بمعناها المادي والمعنوي على السواء.
كيف عبرت الدولة ظروفًا متتابعة من التحديات من أزمة حرب الخليج وهلم جرا، ببساطة كانت الدولة العميقة موجودة، ولا نبالغ في المصطلح ونتصوره موازيًا لنفس المفهوم القائم في تركيا أو الجزائر، فكلاهما تعرضا لامتحانات لم يتمكنا من التفاعل معها بالصورة اللازمة، بينما في الأردن، تبدو الأمور أفضل بكثير، والسبب هو ما رأيناه في عيد الاستقلال، واللا – محكي وغير القابل للتحديد من أداء اجتماعي أكثر منه اقتصادي أو إداري، ليصنع مفهوم الدولة العميقة على الطريقة الأردنية.
يا قرابة! على الرغم من أن هذه الجملة يعتبرها البعض ضربًا من التحيز ويلحقون بها صبغة الفساد، إلا أنها جزء من تجلي النسخة الخاصة للدولة العميقة في الأردن، ففي الأحوال المدنية، أو دائرة السير، يمكن أن تحصل على مساعدة ضمن المعقول، وغير متعلقة بتكلفة مادية، لمجرد وجود معرفة (ما) بين المراجع والموظف، وبالمقابل، تأتي الدولة العميقة في تعبيرات رجال الأمن المعنيين بالحراسة وتنظيم الأمور، يختي ويا أخوي، أحيانًا بطبيعة الحال يمكن أن يتصاعد الصياح ونبرة التحدي مع القائمين على هذه المهمة (حدث معي أيام الدوار الرابع 2018) إلا أنه بشكل عام، كنت أدرك أن أقصى نتيجة هي يومين أو ثلاثة أيام من المراجعات أو حتى التحفظ، وهكذا تقريبًا كان الهامش في سياقات مشابهة كثيرة، وبطبيعة الحال، لا يمكن أن يقارن ذلك بدول عربية أخرى، لتعبير وراء الشمس فيها صلاحيته ووجاهته.
توجد مساحات كبيرة للنقد والغضب، ولكن ذلك ليس من أرضية النكران والجحود، بقدر ما هو قناعة متوطدة للأردنيين بأنهم يستحقون أفضل مما تحقق، وأنهم قادرون على تحقيق ذلك.
بالأمس أيضًا، وبعد منتصف الليل، يكتب الصديق عبد المبيضين، تدوينة شجية، يختمها بمقولة: نحن أكبر مما رأيناه.
والمبيضين ليس بطبيعة الحال الشخص غير الواقعي أو صاحب الأجندة، ببساطة، هو مثل أبناء العمق الأردني (ليكن هذا المصطلح بديلًا للدولة العميقة) يدرك أنه يمكن تحقيق أفضل من ذلك، ولذلك فمراجعة مرحلة 2018 وما وراءها بكل مصفوفتها، وبما اشتملت عليه من إسقاط لمبدأ الاستحقاق من أكثر حكومة الأردن (استغرابًا!!) مع د. الرزاز مسألة ضرورية للغاية، ووقتها يمكن للخطاب أن (يدوزن) على الخصوصية الأردنية، فالمسألة ليست بالسوادوية العاطفية التي عصفت بالمبيضين في مغتربه، وأنا أحد الشهود، أن ذلك لم يكن ضروريًا، وأنه من (فروقات حسابات) مرحلة يجب تجاوزها، في إطار الدوزنة لا الإفراط أو التفريط.