الأردن أمام لحظة تاريخية يجب ألا تُهدر
قال استشاري الذكاء الاصطناعي والتحول الرقمي المهندس هاني البطش إنه في خضم التحولات التي يشهدها العالم الرقمي، وتزامنًا مع احتفال المملكة الأردنية الهاشمية بعيد استقلالها، غدا الاستقلال لحظة تأسيسية لإعادة تعريف مفاهيم السيادة، ليس فقط في بعدها السياسي أو الاقتصادي، وإنما – على نحو أعمق – في أبعادها السيبرانية والرقمية.
وأوضح في تصريحٍ خاص لصحيفة "أخبار الأردن" الإلكترونية أن الأردن دخل تحت قيادة جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين وسمو ولي العهد الأمير الحسين بن عبدالله الثاني، مرحلة جديدة من التفكير الاستراتيجي في الأمن السيبراني والتحول الرقمي، بوصفهما ركيزتين لسيادة الدولة الحديثة وضمان استمرارية كيانها المؤسساتي في فضاء شديد التعقيد والتغير.
الأمن السيبراني كأداة سيادية متقدمة في إدارة المخاطر الرقمية
وبيّن البطش أن الدولة الأردنية، أدركت في ظل تصاعد التهديدات الإلكترونية، أن الأمن السيبراني لم يعد مجرد قطاع تقني منفصل، فقد أضحى بنية فوقية حاكمة لمجمل الأنظمة الحيوية، سواء على مستوى المؤسسات الحكومية أو البنية التحتية الوطنية، بما في ذلك القطاعات المالية، والخدمية، والتعليمية، والطبية، ومن هذا المنطلق، جاء تأسيس المركز الوطني للأمن السيبراني ليشكّل نواةً استراتيجية تُناط بها مهام التحصين، والتقييم، والوقاية، والاستجابة، والتعافي، ضمن إطار مؤسسي يخضع لحوكمة صارمة ومرونة تشغيلية عالية.
وذكر أن إقرار الإطار الوطني للأمن السيبراني 2024 مثّل خطوة نوعية نحو ترسيخ مفاهيم المعايير الدولية، وتعزيز الرؤية التشاركية في صياغة سياسات الحماية الرقمية، عبر توحيد الجهود القطاعية، وتكامل الأدوار بين الفاعلين الرسميين والتقنيين، وفي هذا السياق، تم تطوير منظومات الرصد والتحليل، ورفع كفاءة الاستجابة إلى مستويات تضاهي الممارسات العالمية، ما أتاح حماية مباشرة لأكثر من 83 مؤسسة حيوية، وتقليص زمن كشف التهديدات المحتملة بنسبة قياسية.
من الأمن إلى التنمية – التكنولوجيا كقاطرة لتحول وطني شامل
وأردف البطش أن الأمن السيبراني تحوّل إلى إطار تمكيني لإعادة بناء منظومة الدولة الرقمية، حيث يُعاد تعريف أدوار المؤسسات، وتُصاغ المهام الحكومية عبر منظور رقمي شامل، ويأتي برنامج "نشامى السايبر" مثالًا على التحول من التفكير الوقائي إلى التفكير التنموي، إذ يهدف إلى بناء رأس مال بشري رقمي قادر على التعامل مع تهديدات الغد، وتوظيفها في خدمة الاقتصاد الوطني.
وتابع أن هذا التداخل بين الأمن والتنمية، بين التحصين والإنتاج، يعكس تحولًا في الوعي السياسي الأردني، حيث أصبحت التكنولوجيا خيارًا وجوديًا تمليه ضرورات التنافس العالمي، وتفرضه هندسة النظام الدولي الجديد.
الإقليم يتحرك بسرعة... فهل نبقى في موقع المراقب؟
وذكر البطش أن منطقة الخليج العربي تشهد حراكًا تكنولوجيًا مكثفًا يرقى إلى مستوى "التحول الجيواقتصادي"، تقوده السعودية والإمارات من خلال مشاريع عملاقة في الذكاء الاصطناعي والحوسبة الفائقة والمدن الذكية، وأن الأردن اليوم أمام لحظة تاريخية يجب ألا تُهدر؛ إذ يمتلك ما يكفي من الكفاءات البشرية، والمنظومات الأكاديمية، والبنية التحتية القابلة للتطوير، لكي يكون شريكًا فاعلًا في تشكيل هذا التحول، وليس مجرد مراقب خارجي يستهلك منتجاته.
من الجاهزية الكامنة إلى الفاعلية المؤسسية
وأكد البطش أهمية اللحظة الراهنة وما تستدعيه من ضرورة تجاوز منطق التحضير النظري إلى واقع المبادرة المؤسساتية، من خلال :إعادة بناء المناهج التعليمية بما يتسق مع متطلبات تخصصات المستقبل، كتحليل البيانات الضخمة، إنترنت الأشياء، وتكنولوجيا المدن الذكية، وتحفيز البيئة التشريعية والابتكارية عبر سن قوانين مرنة تُشجع البحث والتطوير، وتُيسر الدخول في شراكات استراتيجية مع الكيانات الخليجية، وإطلاق حواضن رقمية وطنية تتيح للشركات الناشئة الأردنية تقديم حلول تطبيقية قابلة للتصدير إلى بيئات المدن الذكية الإقليمية، وتعزيز التعاون الثلاثي بين القطاع العام، الخاص، والجامعات من خلال مجالس وطنية مختصة تضع خارطة طريق للتحول الذكي، تستند إلى التحليل الاستباقي والقراءة الذكية للمشهد الإقليمي.
نحو سيادة رقمية ومكانة إقليمية فاعلة
واستطرد قائلًا إن التحول الرقمي والأمن السيبراني ليسا فقط مسألتين تقنيتين، وإنما يمثلان مشروعات سيادية ذات طبيعة مركّبة، تتطلب تكامل السياسات، ورؤية بعيدة المدى، وإرادة تنفيذية مستدامة، وما دام الأردن يمتلك إرثًا مؤسسيًا ناضجًا، وقيادة سياسية واعية بالتحديات الرقمية، فإن الوقت قد حان للانتقال من موقع التحصين الدفاعي إلى موقع التأثير الإقليمي، والمشاركة الفعلية في صياغة اقتصاد الغد.
ولذلك، فإن استقلال الأردن – في بعده الجديد – يجب أن يُقرأ اليوم بوصفه استقلالًا سيبرانيًا، رقميًا، معرفيًا، تنمويًا، لا يقل أهمية عن استقلاله السياسي، ولا ينفصل عنه، بل يُعد امتدادًا طبيعيًا له في فضاء تتصارع فيه الدول على النفوذ لا بالمدافع والدبابات، وإنما بالخوارزميات والخوارزميات المضادة.