ترامب في "الخليج" يظهر وكأنه أحد أباطرة الرومان

 

قال الباحث في العلاقات الدولية والشأن الأمريكي الدكتور كمال الزغول إن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، يستحضر في أدائه السياسي والرمزي، ملامح من عهد الإمبراطور الروماني هادريان (117–138م)، الذي تُوجت حقبته بما يُعرف في التاريخ بـ"سلام القوة"، ذلك النمط الذي فرض فيه الرومان هيمنتهم على حوض المتوسط ومفاصل المشرق، من خلال شبكات الطرق والجيوش والحاميات الممتدة، لاسيما في مدن الديكابولس العشرة الواقعة ضمن ما يُعرف اليوم بشرق الأردن وجنوب سوريا وشمال فلسطين.

وأوضح في تصريحٍ خاص لصحيفة "أخبار الأردن" الإلكترونية أن عهد الإمبراطور الروماني مثّل نقطة اتزان جيوسياسي في قلب صراع الحضارات آنذاك، إذ استطاع أن يوحّد أطراف الإمبراطورية الرومانية من خلال القبضة الحديدية والاستقرار المفروض، في حين أحكم السيطرة على مفترق الطرق التجاري الذي يربط بين قارات آسيا وأوروبا وإفريقيا، غير أن هذا الاستقرار لم يكن وليد التوافق أو الشرعية الثقافية، بقدر ما كان قائمًا على تهميش الأديان التوحيدية وملاحقة كل ما يتعارض مع الميثولوجيا الرومانية، فباتت المعابد الوثنية، التي يتحكم فيها الكهنة المتحالفون مع السلطة، تشكّل المراكز الروحية للمدن، وارتفعت تماثيل جوبيتر بدلًا من زيوس على رؤوس التلال، في مشهد قمعي للهوية الدينية البديلة، وتسليع صريح للرموز الإلهية في خدمة المشروع الإمبراطوري.
وبيّن الزغول أنّ هذا البنيان المتماسك ظاهريًا لم يصمد طويلًا، إذ انطلقت حركة التحول من الداخل بعد نحو ثلاثة قرون، حين تمكّنت المسيحية، من خلال انتشارها الأفقي والعميق، من تفكيك المنظومة الميثولوجية الرومانية، وإعادة تشكيل البنية القيمية للإمبراطورية، ليتوحد الشعب الروماني تحت راية العقيدة المسيحية الأرثوذكسية، ولتتحول المدن الوثنية إلى مراكز لاهوتية مزدهرة، وتعلو الكنائس رؤوس التلال محلًّا للمعابد، ويُعاد تشكيل المجال العام برؤية لاهوتية جديدة، عمّرت عمرانًا وثقافة وفنًا وتحالفات إقليمية، توزعت بين الغساسنة حلفاء الرومان والمناذرة المتحالفين مع الدولة الساسانية الفارسية.

وأشار إلى أن التحوّل الأعظم لم يأتِ من الداخل هذه المرة، إذ إنه كان اختراقًا خارجيًا جذريًا، حين جاء الإسلام فأسقط الإمبراطورية الرومانية الشرقية في المشرق، وتُوِّج المشروع الأموي بقيام أول إمبراطورية عربية – إسلامية، تحوّلت فيها رؤوس الجبال إلى منابر للمآذن، وتبدلت فيها المراكز الرمزية من المعابد والكنائس إلى المساجد، واكتملت بذلك دورة حضارية كبرى، تجاوزت مفردات الهيمنة العسكرية إلى مشروع ثقافي وروحي جديد.

ولفت الزغول الانتباه إلى أنه لا يمكن النظر إلى لحظة تقديم وزير الدفاع الأمريكي للرئيس ترامب في قاعدة "العديد" بقطر، وهو يخاطب الجنود بما سمّي بـ"خطبة سلام القوة"، إلا بوصفها محاولة رمزية لإعادة إنتاج صورة الإمبراطور الميداني القائد الأعلى، بعيدًا عن رتابة البيروقراطية في واشنطن وأروقة البنتاغون، فقد كان ترامب، في تلك اللحظة، يستدعي صورة هادريان العظيم، ليس كاستعارة تاريخية فقط، وإنما كحلم شخصي بإعادة تعريف القيادة الأمريكية من خلال المزج بين الاستعراض العسكري والهيمنة الاقتصادية، وربما كان يتخيّل تشييد قوس نصر على الطريقة الرومانية في قلب فلوريدا، تخليدًا لما يراه فتحًا أمريكيًا جديدًا في المشرق.

ونوّه إلى أن الحقيقة المضمرة خلف هذا التمثيل المسرحي تكشف عن اختلال في المعادلة الإمبراطورية المعاصرة، ذلك أن ترامب، ومن خلال تغوّله على مراكز صناعة القرار المؤسسي واعتماده المتزايد على "الحكم الفردي الشعبوي"، أعاد إنتاج الخلل المزمن في الإمبراطوريات المتوسعة، وهو اختلال التوازن بين أدوات القوة العسكرية وأدوات الحوكمة السياسية الرشيدة، فحين تغيب الاستشارات المؤسسية، وتختزل الدولة في شخص الزعيم - أو "سيد قلعة "كما يحب أن يُقدّم نفسه - يصبح المسار عرضة للتقلبات، وتتحوّل القوة من وسيلة للردع إلى غاية للهيمنة، ومن مظلة للحلفاء إلى عبء على الحلف.
ولئن كان التاريخ قد دلّنا على أن التحولات الكبرى غالبًا ما تبدأ من داخل الإمبراطورية لا من خارجها، فإنّ ما يجري اليوم يشير إلى لحظة مفصلية، لا نعلم مآلها بعد، فهل هي استعادة لنموذج هادريان؟... أم أنها بداية مرحلة أفول جديد، تتسارع فيها الأحداث بينما يتوهم القائد أنه يُشيّد المجد؟، وفقًا لما صرّح به لصحيفة "أخبار الأردن" الإلكترونية.

واختتم الزغول حديثه بالقول إن المشهد يتبدى من خلال توازن عالمي يتآكل، ومركز إمبراطوري ينزاح، وزعيم يلهث خلف مجد ماضوي، فيما سؤال المصير لا يزال مفتوحًا، فإلى أين تمضي أمريكا؟... وهل بات ترامب نفسه أحد أعراض الأزمة... أم أحد مسبّباتها الجوهرية؟.