هل باتت واشنطن تفاوض خصومها لتأديب حلفائها؟
قال الكاتب والباحث المتخصص في الصحافة العبرية، الدكتور حيدر البستنجي، إن الإعلان الأميركي عن التوصّل إلى اتفاق للإفراج عن رهينة أميركية إلى جانب أربع جثامين لرهائن آخرين، بدا ظاهريًا، كمبادرة إنسانية تعبّر عن "حسن نية"، بينما في جوهره يُقرأ كـ"هدية سياسية مصمّمة بعناية" لتُدرج ضمن جدول زيارة الرئيس دونالد ترامب إلى المنطقة، في مسعى لتعزيز رصيده الرمزي، ولترميم موقعه التفاوضي أمام ناخبيه، من خلال تقديمه بوصفه زعيمًا قادرًا على استرداد كرامة الرهائن الأميركيين، حتى من قلب مناطق العداء.
وأوضح في تصريحٍ خاص لصحيفة "أخبار الأردن" الإلكترونية أن مؤشرات القراءة الواقعية تفيد بأن الإدارة الأميركية لا تنوي، في المقابل، تقديم أثمان استراتيجية مقابلة؛ إذ لا تلوح في الأفق نية لممارسة ضغوط ملموسة على إسرائيل لوقف عدوانها على غزة، كما لا تظهر رغبة جادة في فتح قنوات دائمة مع حركة حماس.
وبيّن البستنجي أن هذا السلوك يتسق مع العقلية السياسية الأمريكية التي، منذ حرب فيتنام، تُحوّل قضية "الرهائن" إلى رمز بطولي يُعلي من شأن الدولة، بغضّ النظر عن الطرف الذي يُفرج أو يُفاوض، بعكس المقاربة الإسرائيلية التي تؤطر الملف ضمن معادلة البقاء، ولا تتردد في التضحية بالرهائن من أجل ما تصفه بـ"النصر الوجودي".
وذكر أن الاحتلال الإسرائيلي سارع إلى التنصل المسبق من أي ارتباط رسمي بهذا الاتفاق، معلنًا – بوضوح لا لبس فيه – أنه ليس طرفًا مباشرًا، وأنه لن يقبل توسيع نطاق الاتفاق أو البناء عليه سياسيًا ما لم يُدار وفق شروطه الصارمة، ومع ذلك، لم تُعارض تل أبيب إتاحة "أجواء عملياتية ميدانية هادئة" بشكل مؤقت، وذلك لتمكين حركة حماس من إتمام عملية الإفراج عن الرهينة وتسليمه، في مشهد يعكس براغماتية تكتيكية لا تُخفي التصلب الاستراتيجي.
وتوقع البستنجي أن يزور المبعوث الأميركي بريت ماكغورك (ويتكوف) إسرائيل، في محاولة لتمرير صفقة متكاملة تشمل إدخال مساعدات إنسانية أمريكية إلى غزة، إلا أن إسرائيل – ضمن مناوراتها المعتادة – أبدت ممانعة مبدئية، معتبرة أنها ليست ملزمة بتسهيل أيّ من الجوانب اللوجستية للاتفاق، خصوصًا إدخال المساعدات عبر معابرها، وهو ما قد يدفع نحو تفعيل معبر رفح بوصفه المنفذ الأكثر حيادية في هذا الإطار.
ومع أن إسرائيل لا تستطيع معارضة الولايات المتحدة بشكل صريح، إلا أنها قد تلجأ إلى تكتيك التأخير تحت ذريعة "عدم جهوزية الآلية"، أو بحجة أن المساعدات ستؤول عمليًا إلى أيدي حماس، وفقًا لخطاب التيار الأكثر تطرفًا داخل الحكومة، المتمثل في إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، وفقًا لما صرّح به لصحيفة "أخبار الأردن" الإلكترونية، مرجحًا أن يشهدا لحظة انفجار إعلامي ضد نتنياهو، لكنهما – في نهاية المطاف – سيرضخان للضغوط الأميركية، خصوصًا إذا تزامنت مع وعود ضمنية بالسماح لهما بتنفيذ المرحلة القادمة من خطة "عربات جدعون"، التي تهدف إلى إعادة هيكلة جغرافية غزة عبر ممرات آمنة، ومناطق تجميع، وتقطيع القطاع إلى "سجون كبرى منفصلة"، بإدارة شركات أمنية خاصة، بعضها أميركي.
وذكر البستنجي أن هذا الاتفاق – بما يحمله من رمزية سياسية تتجاوز مضمونه الإنساني – يعكس تطورًا نوعيًا في آليات الضغط الأميركي على حكومة نتنياهو، والتي سبق أن تمظهرت في تفاهمات مماثلة مع الحوثيين، خارج التنسيق المباشر مع إسرائيل، ويُفهم من هذه المقاربة أن واشنطن تسعى إلى إعادة رسم علاقتها مع تل أبيب ليس على قاعدة "التحالف المطلق"، وإنما وفقًا لمعادلة جديدة تؤكد على أن الولايات المتحدة تقف مع إسرائيل ككيان، لا مع نتنياهو كشخص أو مشروع سياسي، في محاولة واعية لاستعادة زمام التأثير الأميركي على المسار الإسرائيلي، بعد أن فقدت واشنطن كثيرًا من خيوط التحكم نتيجة غلوّ الحكومة الإسرائيلية وتناقض أولوياتها مع المصالح الأميركية الأوسع.
وتابع أن هذا الاتفاق يُقرأ كرسالة مزدوجة، إلى الداخل الأميركي بأن ترامب "قادر على إعادة الأميركيين من مناطق العدو"، وإلى الداخل الإسرائيلي بأن الولايات المتحدة ما زالت تمسك بخيوط اللعبة، وتملك القدرة على تجاوز نتنياهو إذا لزم الأمر، أما إسرائيل، فهي – كالعادة – تُراوغ، وتحاول التقاط الغنائم من كل مشهد، حتى ولو لم تكن طرفًا فيه، مستندة إلى خبرتها الطويلة في تحويل كل لحظة إنسانية إلى مكسب استراتيجي.
وأشار البستنجي إلى أن أخطر ما في هذا المشهد ليس تفاصيل الصفقة ذاتها، بقدر ما تُعيد كشفه من تناقضات داخل التحالف الأميركي - الإسرائيلي، وما تؤشّر إليه من بدايات تفكك في سردية "التحالف المطلق"، واستبدالها بمنهج جديد أكثر براغماتية، تُعيد فيه واشنطن صياغة أولوياتها في المنطقة من خلال تفاهمات موضعية مع خصوم إسرائيل التقليديين، في لحظة يعاد فيها تشكيل الإقليم على إيقاع المصالح لا الشعارات، وعلى وقع التفاوض لا الولاء المطلق.