قندح يكتب: ترامب في الخليج .. إعادة تشكيل التحالفات
.عدلي قندح
في مشهد دولي يشهد تحولات حادة في موازين القوى الاقتصادية والسياسية، تأتي زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى منطقة الخليج العربي منتصف أيار 2025 كحدث استثنائي يتجاوز طبيعته البروتوكولية ليحمل أبعاداً استراتيجية عميقة في ظل تصاعد السياسات الحمائية وتغير اتجاهات العولمة وتشكّل تكتلات اقتصادية بديلة. فالمنطقة، التي لطالما شكّلت شريكاً حيوياً لواشنطن في معادلة الطاقة والأمن، تجد نفسها اليوم عند مفترق طرق، تواجه خيارات معقدة بين تعزيز تحالفها التقليدي مع الولايات المتحدة والانخراط المتزايد مع قوى ناشئة مثل مجموعة بريكس.
زيارة ترامب لا تنفصل عن السياق السياسي والاقتصادي الذي تعيشه إدارته، إذ يقود حملة مكثفة لإعادة تدوير الاستراتيجية الاقتصادية الأميركية عبر إعادة التمركز نحو الداخل، وفرض تعريفات جمركية صارمة، والتقليل من الاعتماد على سلاسل التوريد العالمية. في هذا الإطار، تُفهم الزيارة على أنها جزء من توجه أوسع لإعادة ربط الاقتصاد الأميركي بالمنطقة العربية، وتوظيف ثقل الخليج المالي والتكنولوجي في خدمة خطة «إعادة العظمة لأميركا» ضمن تصور حمائي يناهض مسار العولمة السائد لعقود.
ومن المقرر أن تحتضن العاصمة السعودية الرياض منتدى اقتصاديا ضخما تحت شعار «MAGA in the Desert»، وتفسيره «اجعل أميركا عظيمة مرة ثانية في الصحراء» يحضره كبار قادة الشركات الأميركية، بمن فيهم إيلون ماسك ومارك زوكربيرغ، وهو مؤشر على رغبة واشنطن في اجتذاب الاستثمارات الخليجية نحو الداخل الأميركي، مقابل تقديم امتيازات تقنية ودفاعية لدول الخليج. وتشير التقديرات إلى أن قيمة الاتفاقيات المرتقبة قد تتجاوز 600 مليار دولار، ما يجعل من هذه الزيارة نقطة تحول مفصلية في العلاقات الثنائية، ذات آثار بعيدة المدى على الاقتصادات الخليجية التي تسعى إلى تنويع مصادر النمو وتسريع مشاريع التحول الرقمي والطاقة النظيفة.
لكن الأبعاد الجيوسياسية للزيارة لا تقل أهمية عن نظيرتها الاقتصادية، إذ تأتي في وقت باتت فيه دول الخليج، وعلى رأسها السعودية، تنسج علاقات متينة مع تكتلات جديدة مثل بريكس، دون أن تحسم تموضعها النهائي. فرغم مشاركة السعودية في قمم بريكس الأخيرة، فإنها لم تنضم رسمياً للمجموعة، وهو قرار يشي بوعي استراتيجي يهدف إلى الموازنة الدقيقة بين النفوذ الأميركي التقليدي والإغراءات التي تقدمها الصين وروسيا من خلال منظومة بريكس. ويُذكر أن حجم الاستثمارات الصينية في السعودية بلغ نحو 71 مليار دولار حتى منتصف عام 2024، ما يعكس تعقيد خيارات الرياض في ظل هذا التشابك الدولي.
وتتزامن الزيارة مع تصاعد النزاع التجاري الأميركي الأوروبي بعد فرض إدارة ترامب تعريفات جمركية بلغت 25% على واردات السيارات الأوروبية و20% على مختلف السلع، ما دفع الاتحاد الأوروبي إلى الرد بإجراءات مضادة على سلع أميركية تزيد قيمتها عن 21 مليار يورو. هذه الحرب التجارية تهدد بانكماش الناتج المحلي لمنطقة اليورو بنسبة تصل إلى 1%، مع آثار سلبية أشد وطأة على اقتصادات صناعية كألمانيا. وبذلك، تسعى واشنطن إلى تقديم نفسها لحلفائها في الخليج كشريك أكثر ثباتاً ومرونة من الاتحاد الأوروبي، الذي يواجه داخلياً أزمات سياسية واقتصادية بنيوية.
في الوقت ذاته، تتصاعد التوترات مع دول بريكس على خلفية مساعي هذه المجموعة إلى إنشاء عملة موحدة تتحدى هيمنة الدولار الأميركي. وقد هددت إدارة ترامب، في سياق أكثر صرامة، بفرض تعريفات تصل إلى 100% على صادرات دول بريكس إلى الولايات المتحدة إذا مضت هذه الخطط قدماً. هذا التصعيد لا يحمل فقط أبعاداً اقتصادية، بل يؤسس لصراع نقدي طويل الأمد قد يعيد رسم طبيعة النظام المالي العالمي، ويضع دول الخليج أمام ضرورة حسم خياراتها في التعامل مع النظام المالي القائم مقابل الانفتاح على منظومات جديدة.
وبينما تحاول دول الخليج انتزاع مكاسب استراتيجية من كلا الطرفين، فإن انحيازها المفرط إلى أي محور قد يترتب عليه أثمان سياسية واقتصادية باهظة، ما يجعل من المرونة الدبلوماسية والبراغماتية الاقتصادية أدوات حاسمة في هذا الظرف الدولي الحرج. فخلال السنوات الأخيرة، أظهرت السعودية والإمارات على وجه الخصوص قدرة على تنويع شركائها الاقتصاديين، مع الحرص على عدم إغضاب واشنطن التي لا تزال المزود الأمني الرئيسي للمنطقة، وشريكاً تكنولوجياً يصعب الاستغناء عنه في مرحلة التحول الوطني التي تشهدها هذه الدول.
إن زيارة ترامب، بكل ما تحمله من رمزية سياسية وأبعاد اقتصادية، تطرح تساؤلات عميقة حول مستقبل التحالفات التقليدية، ودور الدول الخليجية في النظام الدولي الجديد، ومدى قدرتها على التكيّف مع واقع يتجه فيه العالم إلى مزيد من الانقسام بين تكتلات كبرى، وحرب باردة جديدة تتخذ من التعرفة الجمركية والعملات الرقمية والذكاء الاصطناعي أدوات لصراع لا يقل شراسة عن المواجهات العسكرية التقليدية. وإذا كانت هذه الزيارة تمثل فرصة للمنطقة للاستفادة من التحولات الجارية، فإن حسن إدارتها سيحدد إلى حد بعيد مكانة الخليج في القرن الحادي والعشرين.